الثالثة
(لو قسّم تركة الميت ثم ظهر عليه دين)
قال المحقق قدّس سرّه: « لو قسّم الورثة تركة ثم ظهر على الميت دين، فإن قام الورثة بالدين لم تبطل القسمة، وإن امتنعوا نقضت وقضى منها الدين»(1).
أقول: مذهب المحقق قدّس سرّه هو أن التركة تبقى على حكم مال الميت، فإن أدّى الورثة الدين كان لهم المال، وإلا كان للديّان أخذ التركة في مقابل حقّهم، وبعبارة اخرى: إنه يتعلّق بالتركة حق الورثة، بأن تكون لهم بعد أداء دين مورّثهم، ويتعلّق بها حق الديان. بأن يأخذوها في مقابل الدين إن امتنع الورثة عن أدائه، فتكون التركة مورداً لتعلّق حقّين طوليين، كالمال المرهون.
وقال العلامة في (القواعد): «ولو قسم الورثة التركة وظهر دين، فإن أدّوه من مالهم، وإلا بطلت القسمة، ولو امتنع بعضهم من الأداء بيع من نصيبه خاصّة بقدر ما يخصّه من الدين، ولو اقتسموا البعض وكان في الباقي وفاء، اُخرج من الدين ، فإن تلفت قبل أدائه كان الدين في المقسوم إن لم تؤدّ الورثة»(2)وحاصل العبارة: إن الورثة يملكون التركة ملكية متزلزلة، فإن أدّوا الدين استقرّت وإلا أخذ الديان التركة.
وكيف كان، فإن قسّم الورثة التركة وظهر الدين، فتارة: يكون الدين مستوعباً لها، واخرى: لا يكون كذلك، فبناءاً على مختار (القواعد) وبعضهم قد قسموا مالاً هو لهم، فالقسمة صحيحة، وحينئذ يتعلّق حق الديّان ـ المتعلّق سابقاً بكلّي التركة ـ بالسهام المتشخصة بالتقسيم والمتحققة خارجاً بيد كلّ واحد من الورثة، فإن أدّوا جميعهم الدين فقد استقرّ ملكهم، وإن أدّى بعضهم دون بعض، فقد استقرّت مالكية من أدّى دون من امتنع.
قد يقال: إن هذه التركة تكون كالمال المرهون الذي ليس لصاحبه، ولا يجوز للمرتهن التصرف فيه إلا مع إذن الآخر، فكيف تكون قسمة الورثة للتركة صحيحة بدون إذن الديّان، حتى يتشخص بهذه القسمة متعلّق حقّهم بعد أن كان كلّياً؟
لكن يمكن الجواب عنه: بأنه لا مانع من التصرّف غير المنافي لحق الديّان، فإن أدلة الإرث والقسمة تقتضي جواز التقسيم، ولا يعارض ذلك مقتضى أدلّة وجوب أداء الدين، غير أن متعلّق حق الديان أصبح شخصيّاً بعد أن كان كلّياً، وهذا لا مانع منه، لأنه يكون نظير ما إذا أدّوا نصف الدين قبل التقسيم وبقي النصف الآخر، نعم،لو كان الشأن بحيث إذا لم يؤدّ جميع الدين كان جميع التركة كالمال المرهون من حيث عدم جواز التصرف فيه إلا مع الإذن، بطلت القسمة وإن لم يمتنع بعض الورثة عن أداء ما عليهم.
وعليه، فلو مات المورّث وعليه الخمس، واقتسم الورثة التركة، فأدّى بعضهم ما عليهم وامتنع البعض الآخر، فعلى التقدير الأول: يكون من أدّى ما عليه بالنسبة ـ من المال الواجب أداؤه من جهة الخمس الذي كان على الميت ـ مالكاً لما بيده، ومن امتنع لم يجز له التصرف فيما بيده، وعلى التقدير الثاني: لا يجوز لأحد منهم التصرف فيما بيده حتى يدفع الخمس كلّه. إلا أن في هذا المورد بالخصوص نصّاً يقتضي الوجه الأول(3).
إذن، يصحّ التقسيم بناءاً على الملكية المتزلزلة إلا في الصورة المذكورة، وإن هذا المقدار من التصرف بدون إذن الديّان لا مانع منه لعدم منافاته لحقهم، فيكون نظير ما إذا اشتريا مالاً مع خيار الفسخ للبائع مدة معينة، فلا مانع من أن يقسما المال بينهما، فإن أخذ البائع بالخيار في المدة، استرجع ما في يد كليهما ولا إشكال فيه.
وأما على مبنى المحقق، فيشكل بأنه كيف تصحّ القسمة في مال الغير؟ وكيف يباع سهم الممتنع عليه مع أنه للغير؟
وأُجيب: بأن المال وإن لم يكن للورثة، إلا أنه متعلّق لحق شرعي لهم، فحيث أدّوا الدين تنتقل التركة إليهم وتكون ملكاً لهم، فهم في الحقيقة قد قسّموا مالاً متعلّقاً لحقّهم، ويملك كلّ واحد منهم ما وقع إليه، بأداء المقدار المتعلّق من الدين به، ويكون الحاصل: صحّة القسمة بالنسبة إلى من أدّى وبطلانها بالنسبة إلى من امتنع، بمعنى عدم جواز تصرّفه فيما وقع إليه لا بمعنى بطلان القسمة.
ولو ظهرت وصيّة تمليكيّة بعد القسمة، فإن كانت بإنشاء تمليك مال بعد الموت، فتماميتها تتوقّف على قبول الموصى له، فإن قبل كان المال ملكاً له، وإن كانت وصية بتمليك مال إليه، فإن ملّكه الوصي كان ملكه، وإلا كان في حكم مال الميت، فلا يتصرف فيه أحد ولا يقسّم بين الورثة.
ومحلّ الكلام فيما إذا قسّم المال ثم ظهر كونه مورداً للوصية التمليكيّة، ففي (الدروس)(4) و (المسالك)(5) إنه إن كانت الوصيّة وصية مال من غير إضافة لها إلى مال معين، كانت كالدين، وإن كانت مضافة كأن يوصي بدفع عشر ماله مثلاً، كانت كالمال المستحق في الحكم المذكور سابقاً.
أقول: جعلهم الوصية في الصّورة الاولى كالدين، فيه تأمّل، لأنه في الدين ذمة الميت مشغولة، وأما إذا قال: إدفعوا من مالي مأة أو ادفعوا هذه المائة، كان المال للموصى له مع قبوله بعد موت الموصي، لا باقياً في حكم مال الميت حتى يكون كالدين، ولا للوارث كما اختار صاحب (الجواهر)(6) في الدين، ولا يصحّ أن نعتبر الآن اشتغال ذمّته بعد الموت، إذ لا عرفيّة لذلك.
ولو أرسل وقال: إدفعوا مائة، فإنه لا مناص من أن يجعل من المال بمقدار المائة للموصى له، فلو عادلت المائة عشر المال كان العشر له بالإشاعة، ويمكن أن يكون كالصّاع من الصّبرة، وحينئذ، يكون لهم التصّرف في المال، حتى إذا بقي المقدار الموصى به وانحصر الكلّي في الفرد، منعوا من التصرّف فيه، لأنه ملك للموصى له.
بخلاف ما إذا كان بنحو الإشاعة، فلا يجوز التصرّف في شيء من المال إلا بإذن الموصى له، لأن المفروض أنه يشاركهم في كلّ جزء جزء من المال. وكيف كان فليس هذا كالدين.
وبناءاً على ما ذكرنا، يكون حكم قسمة هذا المال حكم قسمة المال الموجود فيه مال مستحق لغير الوارث، وقد تقدّم الكلام عليه.
ولا يبعد أن تكون القسمة صحيحة حتى لو كان مع التصرّف المحرّم لعدم الإذن ـ نظير ما إذا غصب مالاً وباعه لنفسه معاطاة فضولة فأجاز المالك، فالبيع صحيح وإن كانت تصرفاته محرّمة، لجواز اجتماع الحكم التكليفي ـ وهو حرمة التصرف ـ مع الحكم الوضعي وهو الصّحة. ولو كان مورد القسمة أرضاً فقسّموها ، فوقع مجرى ماء أحد السهمين في السهم الآخر، لم يجز لصاحب هذا منع الماء، ولو قسموا داراً كبيرة لها بابان، فكان لكلّ من السهمين باب، فلا يجوز لأحدهما الدخول من باب الآخر ـ إلا مع إذنه ـ وإن كان هذا الباب أوسع أو أقرب، بخلاف ما إذا كان للدار باب واحد ولا يمكن إحداث باب آخر، فلا يجوز لهذا منعه.
هذا، وهل لولّي الطفل أو المجنون المطالبة بالقسمة؟ إن كان في القسمة مفسدة للمولّى عليه، فلا ريب في العدم، وهل يكفى عدم المفسدة أو يشترط وجود المصلحة له؟ قولان، ومع تساوي الأمرين ف الشركة وعدمهاف من حيث المصلحة، فهل يجوز له أن يطالب بالقسمة؟ قولان، وقيل: في هذه الصورة تكون اُجرة القسّام على الولي نفسه.
أقول: والأحوط أن لا يطالب الولي بالقسمة إلا في صورة وجود المصلحة للمولّى عليه، لأن الاجرة تكون على المولى عليه لا على الولي.
وحيث يطلب الشريك القسمة ولا مفسدة للمولى عليه، فهل يجبر الولي؟ الظاهر ذلك، وكذا العكس لكن عليه الاجرة.
(1) شرائع الإسلام 4 : 105.
(2) قواعد الأحكام 3 : 466.
(3) عن إسحاق بن عمار عن أبى عبد الله عليه السلام « في رجل مات فأقرّ بعض ورثته لرجل بدين. قال: يلزمه ذلك في حصته) وسائل الشيعة 19 : 324 باب 26 / اذا أقر واحد.
وعن أبي البخترى وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه عليه السلام قال: « قضى علي عليه السلام في رجل مات وترك ورثة، فأقرّ أحد الورثة بدين على أبيه: إنه يلزمه ذلك في حصّته بقدر ما ورث، ولا يكون ذلك عليه من ماله كلّه … » التهذيب 9 / 372 (23).
(4) الدروس الشرعية 2 : 119.
(5) مسالك الأفهام 14 : 58.
(6) جواهر الكلام 40 : 368.