الإصرار على الصغائر كبيرة
قال المحقق قدّس سرّه: «وكذا بمواقعة الصغائر مع الإصرار أو في الأغلب»(1).
أقول: ظاهر الآية الشريفة: (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)(2) عدم زوال العدالة بمواقعة الصغائر مطلقاً، لكن يدلّ على ذلك عدّة من الأخبار:
1 ـ في كتاب التوحيد عن محمد بن أبي عمير قال: «سمعت موسى بن جعفر عليه السلام يقول: من اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسئل عن الصغائر قال الله تعالى (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلا كَرِيماً). قال قلت: فالشفاعة لمن تجب؟ فقال: حدثني أبي عن آبائه عن علي عليهم السلام قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأما المحسنون فما عليهم من سبيل.
قال ابن أبي عمير فقلت له: يا ابن رسول الله، فكيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر، والله تعالى يقول (وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى)(3) ومن يرتكب الكبائر لا يكون مرتضى؟
فقال: يا أبا أحمد، ما من مؤمن يذنب ذنباً إلاّ ساءه ذلك وندم عليه، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: كفى بالندم توبة، وقال: من سرّته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ولم تجب له الشفاعة ـ إلى أن قال ـ قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا كبير مع الإستغفار ولا صغير مع الإصرار، الحديث»(4).
2 ـ أبو بصير: قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «لا والله، لا يقبل الله شيئاً من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه»(5).
3 ـ السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام «قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من علامات الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وشدّة الحرص في طلب الدنيا، والإصرار على الذنب»(6).
4 ـ جابر عن أبي جعفر عليه السلام «في قول الله عزوجل (وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(7) قال: الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله، ولا يحدّث نفسه بالتوبة، فذلك الإصرار»(8).
5 ـ عبد الله بن إبراهيم الجعفري، عن جعفر بن محمد عن أبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم «قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من أذنب ذنباً وهو ضاحك دخل النار وهو باكي»(9).
هذا، واختلفت تعبيرات القوم في معنى «الإصرار».
فقيل: إنه الإكثار من فعل الصغيرة، سواء كانت من نوع واحد أو أنواع مختلفة.
وقيل: إنه المداومة على فعل واحد من الصغائر.
وقيل: يحصل بكلّ منهما(10)(11).
وقد ضعّف في (الجواهر) القول بأنه عدم التوبة، لكون ما يدلّ عليه وهو خبر جابر المذكور ف ضعيف السند، على أن الصغيرة تقع مكفّرة لا تحتاج إلى توبة، قال: بل لعلّه مخالف لكلام أهل اللغة(12).
ولو ارتكب الصغيرة عازماً على فعلها مرة اخرى أو عزم على إيقاع الصغائر ولم يفعل بعد، فهل تزول عدالته؟ قال في (الجواهر): الظاهر عدم إحراز وصف العدالة معه(13).
أي لاحتمال صدق «الإصرار»، وحينئذ لا تقبل شهادته، لاعتبار وجود وصف العدالة في الشاهد، وهذا يكون بناء على عدم وجوب التوبة، وأما على وجوبها، فإن العازم على المعاودة على المعصية تارك للواجب، وترك الواجب معصية كبيرة، بل إن الإكثار من الارتكاب والتوبة لا يبعد أن يكون إصراراً على المعصية.
وأما بناءاً على عدم وجوب التوبة، فإن العزم على المعصية ليس معصية، والمفروض عدم المواقعة ثانية بعد، فلا وجه للتوقف في قبول شهادته، اللهم إلا أن يكون ترك التوبة «إصراراً» كما يفيده خبر جابر عن الباقر عليه السلام، لكن قد عرفت تضعيفه إياه(14).
هذا كلّه في الصغيرة على الحال الذي عرفت.
قال المحقق: «أما لو كان في الندرة، فقد قيل: لا يقدح، لعدم الانفكاك منها إلا في ما يقلّ، فاشتراطه التزام للأشق، وقيل: يقدح، لامكان التدارك بالاستغفار، والأول أشبه».
أقول: نسب القول الأوّل إلى المشهور واختاره المحقق، وجعله صاحب (الجواهر) أشبه باُصول المذهب وقواعده(15)، والقول الثاني إلى ابن ادريس.
وقد استدلّ المحقق للأوّل: بأن الإنسان لا ينفكّ من مواقعة الصغيرة، فاشتراطه التزام للأشق، إذ تتوقف شئون الناس وامورهم المعتبر فيها العدالة، فيقعون في الحرج، وهو منفي في الشرع لقوله تعالى: (مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج)(16)أو يقع الشخص غير المنفك نفسه في حرج، ولكن النهي عن المواقعة يكشف عن عدم كون الترك حرجيّاً.
قلت: أيّ مشقة في ترك الصغائر؟ فإن كلّ مؤمن متشرّع ملتفت إلى الأحكام يمكنه الترك بلا عسر ولا حرج، فما ذكره غير واضح عندنا.
نعم، الدليل ما ذكره في (الجواهر) من أن الصغيرة بلا إصرار مكفّرة باجتناب الكبائر(17)، فلا حاجة حينئذ إلى التوبة، وبه يتضح الجواب عن دليل القول الثاني.
قال المحقق: «وربما توهّم واهم أن الصغائر لا تطلق على الذنب إلا مع الإحباط، وهذا بالإعراض عنه حقيق، فإن إطلاقها بالنسبة، ولكلّ فريق اصطلاح»(18).
أقول: قد أشرنا إلى انقسام المعاصي إلى كبائر وصغائر، كما دلّت عليه الآيات والأخبار، وأن الأشهر هو القول بأن الكبيرة ما أوعد الله عليه النار وتقابلها الصغيرة. وذهب جماعة إلى أن الذنوب كلّها كبيرة إلا أن بعضها أكبر من بعض، وليس في الذنوب صغيرة، وإنما يكون صغيراً بالإضافة إلى ما هو أكبر.
وأشار هنا إلى أن من الأصحاب من قال بأن الصغائر لا يطلق على الذنوب إلاّ على مذهب القائلين بالإحباط، قال: وهذا وهم، لأن الكبائر قد اعتبرها من قال بالإحباط، وكذا من أبطله وهم الامامية، كما عرفت(19).
قال في (المسالك): على أن القائل بالإحباط يعتبر الأكثر من الطاعة والمعصية، فيثبته أجمع، أو يثبت منه ما زاد عن مقابله من أي نوع كان من أنواع المعاصي، فربما كانت المعصية المخصوصة على هذا مما يحبط عن شخص ويبقى على آخر بالنظر إلى ما يقابلها من الطاعة، فلا يتحقق الصغيرة في نوع من أنواع المعاصي. ومن ثم أطلق على هذا الفهم الوهم، وجعله حقيقاً بالإعراض عنه(20).
ثم على تقدير إطلاق القائلين بالإحباط لفظة «الصغيرة» على ما يمحى بالذنوب، فهو اصطلاح لهم، وإطلاقها عند الفقهاء على ما ذكرنا بحسب ما يدلّ عليه الكتاب والسنّة اصطلاح آخر، ولكلّ فريق اصطلاح.
(1) شرائع الإسلام 4 : 127.
(2) سورة النساء 4 : 31.
(3) سورة الأنبياء 21 : 28.
(4) وسائل الشيعة 15 : 335/11 . أبواب جهاد النفس ، الباب 47.
(5) وسائل الشيعة 15 : 337/1 . أبواب جهاد النفس ، الباب 48.
(6) وسائل الشيعة 15 : 337/2 . أبواب جهاد النفس ، الباب 48.
(7) سورة آل عمران 3 : 135.
(8) وسائل الشيعة 15 : 338/4 . أبواب جهاد النفس ، الباب 48.
(9) وسائل الشيعة 15 : 338/5 . أبواب جهاد النفس ، الباب 48.
(10) مسالك الأفهام 14 : 168 ، جواهر الكلام 41 : 27.
(11) ذكر في المحجة البيضاء، وجامع السعادات، ما ملخصه: إن الصغيرة قد تكبر بأسباب:
1 ـ الإصرار والمواظبة، ولذلك قال الصادق عليه السلام: لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الإستغفار .
2 ـ إستصغار الذنب وعدم استعظامه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « إتقوا المحقرات من الذنوب فإنها لا تغفر… » وقال أمير المؤمنين عليه السلام: « أشد الذنوب ما استخف به صاحبه ».
3 ـ أن يأتي الصغائر ولا يبالى بفعلها، إغتراراً بحلم الله وستره.
4 ـ السرور بالصغيرة، قال أمير المؤمنين عليه السلام: « سيئة تسؤك خير من حسنة تعجبك ».
5 ـ أن يذنب ويظهر ذنبه، بأن يذكره بعد إتيانه، أو يأتي به في مشهد غيره.
6 ـ أن يكون الآتي بالصغيرة عالماً يقتدي به الناس.
(12) جواهر الكلام 41 : 27.
(13) جواهر الكلام 41 : 28.
(14) جواهر الكلام 41 : 27.
(15) جواهر الكلام 41 : 29.
(16) سورة الحج 22 : 78.
(17) جواهر الكلام 41 : 28.
(18) شرائع الإسلام 4 : 127.
(19) قال الشيخ المفيد ( أوائل المقالات : 96 ): « لا تحابط بين المعاصي والطاعات، ولا الثواب والعقاب » وفي التجريد: الإحباط باطل لاستلزامه الظلم، ولقوله تعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراًيَرَهُ)
قال العلامة في شرحه ( شرح تجريد الاعتقاد : 327 ): « اختلف الناس هنا، فقال جماعة من المعتزلة بالاحباط والتكفير، ومعناهما أن المكلف يسقط ثوابه المتقدم بالمعصية المتأخرة، أو يكفر ذنوبه المتقدمة بالطاعة المتأخرة. ونفاهما المحققون.
ثم القائلون بهما اختلفوا، فقال أبو علي: إن المتأخر يسقط المتقدم ويبقى على حاله، وقال أبو هاشم: إنه ينتفي من الأقل بالأكثر، وينتفي الأكثر بالأقل ما ساواه ويبقى الزائد مستحقاً، وهذا هو الموازنة.
ويدلّ على بطلان الإحباط: إنه يستلزم الظلم، لأن من أساء وأطاع، وكانت إساءته أكثر يكون بمنزلة من لم يحسن، وإن كان إحسانه أكثر يكون بمنزلة من لم يسي، وإن تساويا يكون مساوياً لمن يصدر عنه أحدهما، وليس كذلك عند العقلاء، ولقوله تعالى (فَمَن يَعْمَلْ…) والإيفاء بوعده ووعيده واجب ».
ثم ذكر دليل بطلان الموازنة.
وفي مجمع البحرين ( مجمع البحرين 1 : 354 ): « لو قيل ببطلان الإحباط والموازنة، والقول بالتكفير من باب العفو والتفضل، لم يكن بعيداً، وظواهر الأدلة تؤيده ».
(20) مسالك الأفهام 4 : 171.