فظهر أن القسمة على قسمين: قسمة إجبار وقسمة تراض، وقد ذكر المحقق هذا بقوله: «ثم المقسوم إن لم يكن فيه ردّ ولا ضرر اُجبر الممتنع وتسمّى قسمة إجبار، وإن تضمنت أحدهما لم يجبر وتسمّى قسمة تراض»(1).
فإن لم يكن في البين ردّ ولا ضرر اُجبر الممتنع عن التقسيم، لأن الإنسان له ولاية الانتفاع بماله، والإنفراد أكمل نفعاً، والمفروض عدم المانع من إعمال هذه الولاية، وهذه قسمة الإجبار، وإن كان هناك ردّ أو ضرر فلا يجوز إجبار الممتنع عن التقسيم، بل يقسم بأي نحو تحقق به رضا جميع الأطراف، وهذه قسمة التراضي. وعلى هذا الأساس قال المحقق: «ويقسّم الثوب الذي لا تنقص قيمته بالقطع كما تقسم الأرض» أي المتساوية الأجزاء قسمة إجبار، لأن المفروض عدم الضرر وعدم الردّ فيها «وإن كان ينقص بالقطع، لم يقسم، لحصول الضرر بالقسمة» قال: «وتقسم الثياب والعبيد بعد التعديل بالقيمة قسمة إجبار» لأن التعديل رافع للضرر المانع من الإجبار.
لكن في (المسالك): ومنهم من قسّمها ثلاثة أقسام:
قسمة الإفراز، وهي أن يكون الشيء قابلاً للقسمة إلى أجزاء متساوية الصفات كذوات الأمثال وكالثوب الواحد، والعرصة الواحدة المتساوية، ولا إشكال في كون هذا القسم إجبارياً، مع بقاء الحصص بعد القسمة منتفعاً بها أو حافظة للقيمة كما مر.
والثاني: قسمة التعديل، وهي ما تعدل سهامها بالقيمة، وهي تنقسم إلى ما يعدّ شيئاً واحداً وإلى ما يعدّ شيئين فصاعداً:
فالأول ـ ما يعدّ شيئاً واحداً كالأرض التي تختلف قيمة أجزائها… ومقتضى عبارة المصنف قسمة هذه إجباراً، إلحاقاً للتساوي في القيمة بالتساوي في الأجزاء، ويحتمل عدم الإجبار هنا لاختلاف الأغراض والمنافع، والوجهان جاريان فيما إذا كان الإختلاف لاختلاف الجنس، كالبستان الواحد المختلف الأشجار، والدار الواحدة المختلفة البناء. والأشهر الإجبار في الجميع.
والثاني ـ ما يعدّ شيئين فصاعداً، وهو ينقسم إلى عقار وغيره:
فالأول، كما إذا اشتركا في دارين أو حانوتين متساويتي القيمة، وطلب أحدهما القسمة بأن يجعل لهذا داراً، ولهذا داراً.
ولا يجبر الممتنع هنا، سواء تجاور الداران والحانوتان أم تباعدا، لشدّة اختلاف الأغراض باختلاف المحال والأبنية فيلحقان بالجنسين المختلفين… ولو كان بينهما دكاكين متلاصقة لا يحتمل آحادها القسمة ـ وتسمّى العضائد ـ فطلب أحدهما أن يقسم أعيانها، ففي إجبار الممتنع وجهان، أظهرهما العدم، وسيأتي.
وأما غير العقار، فإذا اشتركا في عبيد ودواب أو أشجار أو ثياب، فإما أن يكون من نوع واحد أو من متعدد.
فإن كانت من نوع واحد وأمكن التسوية بين الشريكين عدداً وقيمة، كعبدين متساويي القيمة بين اثنين وثلاث دواب متساوية القيمة بين ثلاثة، فالذي اختاره المصنف والأكثر أنه يجبر على قسمتها أعياناً ويكتفى بالتساوي في القيمة، بخلاف الدور لشدة اختلاف الأغراض فيها… وفي القواعد: استشكل الحكم في العبيد(2)… ونقل في المبسوط عن بعضهم عدم الإجبار هنا، والمذهب هو الأول(3).
ولو لم يمكن التسوية في العدد، كثلاثة أعبد بين اثنين على السويّة أحدهما يساوى الآخرين في القيمة، فإن قلنا بالإجبار عندإمكان التسوية، فهنا وجهان، ينظر أحدهما إلى تعادل القيمة، والثاني إلى اختلاف العدد وتفاوت الأغراض…
ولو كانت الشركة لا ترتفع إلا عن بعض الأعيان، كعبدين بين اثنين قيمة أحدهما مائة وقيمة الآخر مائتان، فطلب أحدهما القسمة ليخصّ من اخرجت له القرعة الخسيس به ويربع النفيس، ففي إجبار الآخر وجهان مبنيّان على المسألة السابقة، فإن قلنا: لا إجبار هناك فهنا أولى، وإن قلنا بالإجبار هناك فهنا وجهان، أصحّهما: المنع، لأن الشركة لا ترتفع بالكليّة.
ولو كانت الأعيان من أنواع مختلفة، كالعبد التركي مع الهندي والثوب الابريسم مع الكتان مع تساويهما في القيمة، ففي إجبار الممتنع وجهان مرتّبان، وأولى بالمنع هنا لو قيل به في السابق.
وكذا القول لو اختلف قيمتهما وأمكن التعديل.
ويظهر من المصنف وجماعة عدم اعتبار اختلاف النوع مع اتفاق القيمة، فأما الأجناس المختلفة كالعبد والثوب، والحنطة والشعير، والدابة والدار، فلا إجبار في قسمة أعيانها بعضها في بعض وإن تساوت قيمتهما.
والثالث: قسمة الرد، بأن يكون بينهما عبدان، قيمة أحدهما ألف وقيمة الآخر ستمائة، فإذا ردّ آخذ النفيس مائتين استويا.
ولا خلاف في كون هذا القسم مشروطاً بالتراضي، وسيأتي الكلام فيه، انتهى كلام الشهيد الثاني قدّس سرّه(4).
أقول: وحاصله: أنه مع اختلاف الغرض لا يجوز الإجبار، وإن أمكن التعديل في القيمة بلا ردّ، قال في (الجواهر): وهو كما ترى، لا نعرف له مدركاً ينطبق على أصولنا إلا دعوى حصول الضرر في بعض دون آخر، وهي مجرد اقتراح، وإنما صدر من العامة على أصولهم الفاسدة.
ثم قال: اللهم إلا أن يكون في مختلف جهة الشركة فيه، بمعنى عدم الشركة في مجموع آحاده وإن تحقّقت في أفراده بأسباب مستقلة، فإنه لا جبر في قسمة بعض في بعض قطعاً، بل الظاهر عدم مشروعية القسمة فيه بالمعنى المصطلح وإن جازت بنوع من الصلح ونحوه، لكون القسمة حينئذ قسمة معاوضة لا إفراز، وذلك لأنه معها يكون له النصف من كلّ منهما مثلاً، ولا يجب عليه معارضة ما يستحقه في أحدهما بما لصاحبه في الآخر، إذ ليست هي بإفراز حينئذ، بخلاف ما لو كانت الشركة في مجموعه، فإن له حينئذ نصفاً منه وهو يمكن انطباقه على أحدهما.
ومن ذلك يظهر لك اعتبار الإشاعة في مجموع الأعيان المشتركة التي يراد قسمتها بعض في بعض، بل لا موضوع للقسمة في غيره ممّا آحاده مشتركة بأسباب مستقلة من دون شركة بمجموعه، وليس المراد في الأول اعتبار نصف المجموع مثلاً كي يرد حينئذ عدم جواز قسمة بعض المال المشترك دون بعض أو قسمة بعضه بالإفراز والآخر بالتعديل، والمعلوم خلافه نصاً وسيرة، وإنما المراد زيادة مصاديق النصفية بملاحظة الشركة في المجموع على وجه يصح قسمته بعض في بعض بحيث يكون النصف أحد المالين مثلاً، فتأمل فإنه دقيق نافع… إلى آخر ما ذكره قدّس سرّه(5).
وملخصه: عدم إمكان القسمة بالقيمة في صورة اختلاف سبب الشركة، فلو اشترك أخوان في مال بالإرث وفي آخر بالشراء، كان النصف المشاع من كلّ واحد لكلّ واحد من الأخوين، وحينئذ، لا يقسم هذان المالان بأن يجعل بعضه في مقابل بعض بالقيمة، وظاهر كلامه يعّم المثلي والقيمي معاً.
ولم يتّضح لنا وجه هذا التفصيل، لأن كلّ مال مشترك بالإشاعة يكون نصف كلّ جزء لهذا والنصف الآخر منه للآخر، حتى يصل إلى الجزء الذي لا يتجزء، من دون فرق بين اتحاد سبب الشركة وتعدّده، وعلى هذا، فإنه تجعل المصاديق الخارجية لكلّى النصف ثم تعيّن لكلّ واحد بالقرعة، نعم، إن النصف الكلّي لمّا ورثاه لا يكون مصداقاً لكلّي النصف من المال الذي اشترياه، ولكن إذا قسّمت الأموال من حيث المجموع بلحاظ القيمة إلى قسمين، مع غض النظر عن سبب الملكية، تحقق المصداق للمملوك، وبالقرعة يتعين المالك لكلّ نصف.
وعلى الجملة، إن اختلاف سبب الملك لا يوجب اختلاف الملك، والسيرة قائمة على التقسيم، من دون نظر إلى أسباب التملّك، فإن ما تركه الميت لورّاثه بالإشاعة، ويقسم بينهم من دون نظر إلى أفراد التركة من حيث أسباب تملك الميّت لها.
قال المحقق قدّس سرّه: «وإذا سألا القسمة ولهما بينة بالملك قسّم، وإن كان يدهما عليه ولا منازع لهما قال الشيخ في المبسوط: لا يقسم(6)، وقال في الخلاف: يقسم(7)، وهو الأشبه، لأن التصرف دلالة الملك»(8).
أقول: إذا سأل الشريكان الحاكم القسمة فتارة: يعلم الحاكم بكون المال ملكاً لهما بالإشتراك، وأخرى: تقوم البينة على ذلك عنده، وثالثة: لا علم ولا بينة بل لهما يد على المال.
فعلى الاوّلين: لا إشكال ولا خلاف في تصرف الحاكم بتقسيم المال.
وعلى الثالث فعن (المبسوط): لا يسمع قولهما بل يطالبان بالبينة على كون المال لهما، وعن (الخلاف) إنه يقسّم وعليه المشهور(9)، واختاره المحقق بقوله: هو الأشبه، وفي (الجواهر): بل لعلّه لا خلاف فيه بيننا، بل قد يظهر من بعضهم الإجماع عليه(10).
وجه المنع: إحتمال كون التقسيم حكماً، والحكم يتوقف على البينة.
ووجه الجواز: إن اليد والتصرّف دلالة الملك… وهذا هو المختار.
والإحتياط الذي ذكره صاحب (الجواهر) قدّس سرّه ليس بلازم.
(1) شرائع الإسلام 4 : 101.
(2) قواعد الأحكام 3 : 462.
(3) المبسوط في فقه الامامية 8 : 147.
(4) مسالك الأفهام 14 : 35 ـ 39.
(5) جواهر الكلام 4 : 341.
(6) صرح في المبسوط بجواز القسمة . راجع المبسوط 8 : 147 ـ 148 . ولم اعثر على منع القسمة في المبسوط .
(7) كتاب الخلاف 6 : 232 ، المسألة 30.
(8) شرائع الإسلام 4 : 102.
(9) كتاب الخلاف 6 : 232.
(10) جواهر الكلام 40 : 343.