6 ـ في أحكام تتعلق بالأصل والفرع، وهي في فروع:
الفرع الأؤل: لو شهد شاهد الفرع فأنكر الأصل، فالمروي هو العمل بشهادة أعدلهما، فإن تساويا اُطرح الفرع. وهذه نصوص ما روي في هذا الفرع عن الوسائل:
1 ـ الصدوق… عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام: «في رجل شهد على شهادة رجل، فجاء رجل فقال: إني لم أشهده(1). قال: تجوز شهادة أعدلهما، وإن كانت عدالتهما واحدة لم تجز شهادته»(2).
2 ـ الشيخ… عن عبد الرحمن قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل شهد شهادة على شهادة آخر فقال: لم أشهده. فقال: تجوز شهادة أعدلهما»(3).
3 ـ الشيخ… عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام: «في رجل شهد على شهادة رجل، فجاء الرجل فقال: لم أُشهده. قال فقال: تجوز شهادة أعدلهما ولو كان أعدلهما واحداً لم تجز شهادته»(4) قال صاحب (الوسائل): «ورواه الكليني عن علي بن إبراهيم، إلا أنه قال: لم تجز شهادته عدالة فيهما»(5).
لكن المشهور أن الشرط في قبول شهادة الفرع هو تعذر الأصل، عملاً بخبر محمد بن مسلم كما عرفت ذلك في الجهة السابقة، ومن هنا أشكل عليهم أمر النسبة بين ذاك الخبر وخبري عبد الرحمن وابن سنان المذكورين، قال المحقق:
«ولو شهد شاهد الفرع فأنكر شاهد الأصل فالمروي العمل بشهادة أعدلهما، فإن تساويا أطرح الفرع. وهو يشكل بما أن الشرط في قبول الفرع عدم الأصل»(6).
واختلفت كلماتهم في هذا المقام:
فمنهم: من عمل بالخبرين في هذه الصورة، وأفتى بمضمونهما، كالصدوقين والشيخ في (النهاية) والقاضي ابن البراج. قال الشيخ: «من شهد على شهادة آخر وأنكر ذلك الشاهد الأول قبلت شهادة أعدلهما، فإن كانت عدالتهما سواء طرحت شهادة الشاهد الثاني»(7). وقال علي بن بابويه في رسالته كما في (المختلف): وإذا حضرا فشهد أحدهما على شهادة الآخر وأنكر صاحبه أن يكون أشهده على شهادته، فإنه يقبل قول أعدلهما، فإن استويا في العدالة بطلت الشهادة. قال العلامة: «وكذا قال ابنه الصدوق في المقنع»(8).
ومنهم: من طرح الخبرين ولم يعمل بهما، لترجيح خبر محمد بن مسلم عليهما، قال في (الرياض): لأن ظاهرهما متروك من حيث اشتمالهما على شهادة الرجل الواحد على الواحد، وهو مخالف للإجماع فتوى ونصاً كما مضى. وهذا مذهب الشيخ في المبسوط والحلي وابن زهرة والفاضلين وغيرهم، وبالجملة، أكثر المتأخرين بل المشهور مطلقاً كما في المسالك وغيره، وزاد الأول فنسبه كالشهيد في النكت إلى عامّة المتأخرين، معربين عن دعوى إجماعهم عليه، ولعلّه أقرب، للشهرة المرجحة للأدلّة المتقدمة على هذه الرواية، سيما مع ما هي عليه من الكثرة والاعتضاد من أصلها بالشهرة، بل الاجماع كما عرفته»(9).
قال في (الجواهر): وعن ابن إدريس زيادة الإشكال السابق: أوّلاً: بأن الفرع إنما يثبت شهادة الأصل، فإذا كذبه الأصل حصل الشك في المشهود به، فكيف يحكم على وفقه. وثانياً: بأنه إذا كذبه صار فاسقاً عنده، فما الفائدة في إثبات شهادته، بل يثبت كذب أحدهما، وأيهما كذب بطلت الشهادة. وثالثاً: بأن الشاهد إذا رجع قبل الحكم لم يحكم. ورابعاً: بأن الأصل لا حكم ولا شهادة ولا بقاء الأموال عند أربابها، وهذا حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل(10).
قلت: وفيه: إنه لا وجه لطرح الخبرين بعد ما سيأتي من الوجه الوجيه في الجمع بينهما وبين خبر محمد بن مسلم. وأما اشكالات ابن إدريس، فبعضها كالاجتهاد في مقابلة النص، وبعضها غير وارد كما ذكر في (الجواهر) أيضاً(11)ومنهم: من جمع بين الخبرين وخبر محمد بن مسلم ببعض الوجوه:
.
فمنها: بحمل الخبرين على قول الأصل: لا أعلم، قال المحقق: «وربما أمكن لو قال الأصل: لا أعلم»(12).
وقال العلامة في (القواعد): «وهو محمول على قول الأصل: لا أعلم، أما لو جزم بكذب شاهد الفرع فإنها تطرح»(13). وفي (التحرير) بعد عبارتي الشيخ وابن بابويه المتقدمتين: وكلاهما ليس بجيّد، بل الأولى طرح شهادة الفرع، لأن الأصل إن صدق كذب الفرع وإلا كذب الأصل. وعلى كلا التقديرين تبطل شهادة الفرع، وتحمل الرواية التي أفتى بها الشيخ على مالو قال الأصل: لا أعلم(14).
لكن في (المسالك): واعترضه السيد عميد الدين: إنه لا يمكن حينئذ العمل بقول الأعدل إذا كان الأصل، لأنه غير شاهد.
وأورد عليه الشهيد أيضاً: بأن ذلك غير منطوق الرواية، لتضمنها قوله: لم أُشهده(15).
وأورد عليه في (الجواهر) أيضاً بقوله: لكنه كما ترى، إذ هو مع منافاته للمشهور بين الأصحاب من عدم قبول شهادة الفرع مع حضور شاهد الأصل الذي هو أعم من إقامتها أو تركها لعدم العلم بها، لا شاهد له(16)…
ومنها: بحمل الخبرين على ما إذا أنكر بعد الحكم، والخبر السابق على ما إذا أنكر قبله، قال ابن حمزة: إذا شهد الفرع ثم حضر الأصل لم يخل من وجهين : إما حكم الحاكم بشهادة الفرع أولم يحكم، فإن حكم وصدقه الأصل وكان عدلاً، نفذ حكمه، وإن كذبه وتساويا في العدالة نقض الحكم، وإن تفاوتا أخذ بقول أعدلهما، وإن لم يحكم بقوله سمع من الأصل وحكم به(17). وقال العلامة في (المختلف) بعد خبر ابن سنان: والجواب الحمل على ما إذا أنكر بعد الحكم، فإنه لا بُعد في الحكم حينئذ بشهادة أعدلهما اعتباراً بقوة الظن، أما قبل الحكم فإن شهادة الفرع تبطل قطعاً(18).
قال في (الجواهر): لكن فيه: إنه لا شاهد لهذا الجمع، بل ظاهر ما تسمعه من المصنف وغيره تقييد جميع الأدلة المزبورة بعكس ذلك، معربين عن عدم الخلاف في عدم الالتفات إلى الإنكار بعد الحكم معلّلين بنفوذه، فيستصحب، بل نسبه الأردبيلي إلى الأصحاب، مؤذناً بدعوى الإجماع عليه ، فلا إشكال حينئذ في فساده(19).
هذا، ولا يرد على الاستصحاب المذكور ما قيل من أنه كيف يجري الاستصحاب مع وجود الدليل الاجتهادي(20). لوضوح أن تقدم الدليل الإجتهادي على الأصل يكون في صورة عدم وجود المعارض له.
ومنها: بأن الخبرين واردان في مورد إنكار الأصل، وخبر محمد بن مسلم يفيد اشتراط قبول شهادة الفرع بعدم شهادة الأصل. قال في (المسالك) عن الشهيد إنه «وجّهها ـ أي رواية ابن سنان ـ بأنه لا يلزم من أنه يشترط في إحضار شاهد الفرع تعذر الأصل أن يكون ذلك في السماع. سلّمنا، لكن المراد: إذا كان الأصل والفرع متفقين، فإنه حينئذ لا يحتاج إلى شهادة الفرع، للاستغناء بالأصل وزيادة الكلفة بالبحث عن الجرح والتعديل، أما مع التناكر فيمتنع تناول العبارة له، وبالجملة: فهم لم يصرحوا بأن ذلك مناف لشهادة الفرع، بل ظاهر كلامهم أن سماع شهادة الفرع مشروط بتعذر شاهد الأصل إذا كان يشهد، والمنكر لم يشهد»(21).
أقول: وكلا الوجهين في كلامه خلاف الظاهر.
أما الأوّل: فن ظاهر الشهادة أن يشهد الشاهد لأن تقبل شهادته ويرتب الأثر عليها، وهو ظاهر قوله عليه السلام في خبر ابن مسلم «لا بأس به».
وأما الثاني: فنه إذا كانا متفقين فلا حاجة إلى شهادة الفرع، لا أنه يتقدم شهادة الأصل على شهادته.
ومنها: الجمع بين الطرفين: بأن الخبرين ظاهران في حضور الأصل بعد الشهادة من الفرع، وظاهر خبر ابن مسلم حضوره قبلها. وهذا الجمع هو الأولى، لابتنائه على ظواهر هذه الأخبار، والموجب لبقاء جميعها على الإعتبار، فإن خبر محمد بن مسلم قد عمل به المشهور، والخبران جامعان لشرائط الحجية، وقد عمل بهما الأصحاب بالجملة كما في (الجواهر)… ولازم القبول بعد الشهادة وقوع التعارض، فيؤخذ بقول الأعدل منهما… ووقوع المعارضة بين شهادة الواحد وشهادة الاثنين تعبد.
ثم قال في (الجواهر): إنه بناء على العمل بالخبرين المزبورين، يمكن دعوى الاستفادة من فحواهما جريان الترجيح بذلك في التعارض بين شهود الفرع أيضاً، بمعنى أن كلاًّ من شهود فرع عن أصل قد شهد بعكس الآخر عن الأصل، وحينئذ فيقدم الأعدل، ومع التساوي يطرح، لعدم ثبوت شهادة الأصل نحو ما سمعته في السابق، ضرورة أولوية صورة تعارض الفروع من تعارض الأصل والفرع بذلك(22).
قلت: إن الخبرين واردان على خلاف القاعدة، فلا مجال للأولوية، وعلى هذا ، فلا مانع من ترجيح الأكثر عدداً إن كان المعنى في تعارض البينات ذلك. هذا أوّلاً.
وثانياً: إن الحكم الوارد في التعارض بين المنكر والمثبت، لا وجه لإسرائه إلى صورة التعارض بين المثبتين.
وهل يشترط في الترجيح بالأعدلية كون كليهما أعدل أو يكفي للترجيح وجود الواحد الأعدل في أحد الطرفين؟ فيه تردد، لكن الأوّل هو القدر المتيقن، فيكون الأصل في غيره عدم الترجيح.
الفرع الثاني: قال المحقق قدّس سرّه: «ولو شهد الفرعان ثم حضر شاهد الأصل، فإن كان بعد الحكم لم يقدح في الحكم، وافقا أو خالفا، وإن كان قبله، سقط اعتبار الفرع وبقي الحكم لشاهد الأصل»(23).
أقول: في هذا الفرع صورتان:
احداهما: أن يشهد الفرعان ثم يحضر شاهد بعد الحكم. قال المحقق في هذه الصورة: لم يقدح في الحكم، وافقا أو خالفا. واستدل له في (الجواهر) بأصالة الصحة واستصحابها وغيرهما(24).
قلت: إن كان المراد من أصالة الصحة هو الأصل الذي يجري في أفعال الآخرين، فلا مجرى له هنا. نعم، إذا شك في الحكم في أنه هل صدر مع غيبة الأصل أو حضوره، حمل على الصحة، ولكن المفروض العلم بالغيبة حين الحكم.
وأما الرجوع إلى الإستصحاب ففيه: إنه إذا كان قد أخذ تعذر حضور الأصل شرطاً متأخراً في قبول شهادة الفرع، وقع الشك في صحة الحكم، فلا يقين بالصحة حتى يستصحب.
فالأولى أن يقال: بأن النصوص بعد الجمع بينها كما عرفت دلّت على تقدّم قول الأصل لو حضر قبل الحكم، وأما بالنسبة إلى بعد الحكم فهي ساكتة، فيكون المرجع أدلّة نفوذ حكم الحاكم.
الفرع الثالث: لو شك الحاكم في حضور الأصل وعدمه، لم يسمع شهادة الفرع، لأن العلم بعدم حضوره شرط في صحة شهادة الفرع.
الفرع الرابع: لو حكم بانياً على تعذر حضور الأصل ثم ظهر كونه حاضراً أو إمكان حضوره، نقض الحكم، كسائر موارد الخطأ والإشتباه، كما لو حكم اعتماداً على شهادة رجلين معتقداً عدالتهما ثم ظهر كونهما فاسقين عند الشهادة.
الفرع الخامس: قال المحقق: «ولو تغيرت حال الأصل بفسق أو كفر، لم يحكم بالفرع، لأن الحكم مستند إلى شهادة الأصل»(25).
أقول: لو تغيّرت حال الأصل، فإن كان بجنون مثلاً لم يقدح، وإن كان بفسق لم يحكم بالفرع، هكذا قالوا، وقد وجّهوا هذا التفصيل بوجهين:
أحدهما: إن الفسق قادح، وفي هذه الحالة يصدق وقوع الحكم بشهادة الفاسق، لأن الفرع إنما يؤدّي شهادة الأصل، والحكم مستند إلى شهادة الأصل دون الفرع.
لكن هذا القدر لا يكفي فارقاً بين الموردين.
والثاني: إن الفسق يورث الريبة في عدالته حين الشهادة.
وفيه: إن اللازم هو العدالة حين الأداء، فإذا أدى الأصل الشهادة عند الحاكم وهو عادل، فسمع الفرع شهادته وشهد بها فيما بعد، فقد شهد بالشهادة التي أدّاها الأصل في حال العدالة، فأي قدح لفسقه الطارئ بعد ذلك؟
فظهر أن كلا الوجهين لا يصلحان للفرق.
وتفصيل المطلب أنه: إن ظهر بطلان شهادة الأصل عند أداء الفرع، فلا ريب في بطلان شهادة الفرع، بل يمكن دعوى الإجماع عليه، إذ ليس الإسكافي وجامع المقاصد مخالفين في ذلك، فإنهما يقولان بعدم بطلان الحكم لو رجع الأصل عن شهادته بعد الحكم، وذاك بحث آخر.
وإن شهد الشاهد مع العدالة ثم طرأ الفسق قبل الحكم، فهل يوجب بطلان شهادته؟ فيه قولان كما سيأتي، وقد أرسل الشيخ في (الخلاف) القبول إرسال المسلم حيث قال: إذا شهد عدلان عند الحاكم بحق ثم فسقا قبل أن يحكم بشهادتهما حكم بشهادتهما ولم يرده، وبه قال أبو ثور والمزني، وقال باقي الفقهاء: لا يحكم بشهادتهما.
دليلنا: إن الاعتبار بالعدالة حين الشهادة لا حين الحكم، فإذا كانا عدلين حين الشهادة وجب الحكم بشهادتهما، وأيضاً إذا شهدا وهما عدلان وجب الحكم بشهادتهما، فمن قال إذا فسقا بطل هذا الوجوب فعليه الدلالة(26).
وقال العلامة في (المختلف) بعد نقله عبارة الشيخ: والأقرب عندي عدم الحكم. لنا: إنهما فاسقان حال الحكم فلا يجوز الحكم بشهادتهما، كما لو رجعا، وكما لو كانا وارثين ومات المشهود له قبل الحكم، ولأن تطرق الفسق يضعف ظن العدالة السابقة الخفية، فكان الإحتياط ترك الشهادة.
واستدلال الشيخ مصادرة، لأنه ادعى أن الاعتبار بالعدالة حين الشهادة لاحين الحكم وهو عين المتنازع. وقوله: إذا شهدا وهما عدلان وجب الحكم بشهادتهما، ليس على إطلاقه فإنه المتنازع، بل إذا استمرّت العدالة إلى وقت الحكم. أما إذا خرج عن هذا الوصف فإنه المتنازع(27).
قلت: أما قوله: إنهما فاسقان حال الحكم فلا يجوز الحكم بشهادتهما، فمصادرة، لأن عدم القبول أوّل الدعوى، والتنظير بالرجوع قياس مع الفارق، لأن أثر الرجوع بطلان كشف الخبر عن الواقع من أوّل الأمر، وبعبارة اخرى: الرجوع يجعل الخبر كالعدم، بخلاف الفسق بعد أداء الشهادة، فإنه لا يضرّ بالشهادة التي قبله.
وأما قوله «ولأن تطرق الفسق يضعف ظن العدالة» ففيه: إن ضعف الظن بالعدالة غير قادح، وإن كان المراد ما ذكره (الجواهر) فقد عرفت ما فيه.
وكون الاحتياط بترك الشهادة، ضعيف، لأن المقام من دوران الأمر بين المحذورين، لأنه إذا لم تقبل هذه الشهادة ضاع حق المشهود له، وإن قبلت ضاع حق المشهود عليه، فلا مجال للاحتياط الذي ذكره.
وأما ما ذكره بالنسبة إلى كلام الشيخ، فيمكن أن يقال في الجواب: بأن ما ذكره الشيخ مبني على الاستظهار من آية النبأ(28)، فإن المشتق ظاهر في التلبس حال الفعل، أي الفاسق حين مجيئه بالنبأ، فيكون المفهوم أنه إذا لم يكن فاسقاً حين المجئ به لا يجب التبين، وإن فسق من قبل أو بعد، نعم، قد يقال: بأن المراد وجوب التبين من خبر من كان فاسقاً في زمان مطلقاً، نظير قولهم في قوله تعالى: (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(29).
وأما صاحب (الجواهر) فقد مال في كتاب القضاء إلى عدم نقض الحكم بعروض الفسق عليه بعد الشهادة(30)، فقد وقع التنافي بين كلامه هناك وما ذكره في هذا المقام.
إنما الكلام في أنه لو تغير حاله بعد الشهادة التي سمعها الفرع منه، فأراد الفرع أدائها عند الحاكم كما سمعها، فهل تقبل منه كما تقبل فيما لو تغير حال الأصل بعد الشهادة عند الحاكم، أو لا تقبل؟
قد فرق الشيخ بينهما في (المبسوط) حيث عنون المسألة كما نقلناه عن (الخلاف) وقال بالقبول ثم قال: وإذا فسق الأصل قبل شهادة الفرع عند الحاكم لا تقبل، لأن الشرط العدالة عند الشهادة عند الحاكم، وشهادة الفرع هنا مستندة إلى شهادة الأصل، فكأن الأصل عند الأداء عند الحاكم فاسق، وهذا نص كلامه:
«وإن سمع الحاكم من الفرع في الموضع الذي يسوغ له أن يسمع ويحكم بشهادته ثم تغيرت حال الأصل، كان الحكم فيه كما لو سمع من الأصل نفسه ثم تغيرت حاله. فإن فسق الأصل لم يحكم بشهادة الفرع، لأنه لو سمع من الأصل ثم فسق لم يحكم بشهادته، لأن الفرع يثبت شهادة الأصل، فإذا فسق الأصل لم يكن هناك ما يثبته»(31).
وأضاف في (الجواهر): حتى على قول العامة بالنيابة، فإنه إذا بطل حكم شهادة المنوب بنحو ذلك بطل حكم شهادة النائب. (قال): بلا خلاف أجده في شيء من ذلك، إلا ما سمعته من ابن حمزة والفاضل في المختلف من الحكم بأعدلهما لو اختلف الأصل والفرع بعد الحكم(32)(33).
قلت: أما تفريق الشيخ بين ما إذا تغير حال الأصل بعد الأداء عند الحاكم فتقبل ، وبين ما إذا كان الأداء لا عند الحكم فلا تقبل، فلم نعرف له وجهاً، كما لم نعرف الوجه في التفريق بين فسق الأصل عند أداء الفرع عند الحاكم فلا تقبل، وبين جنونه عند ذاك فتقبل، فإنه إذا كان وجه القبول في الأول كونه عاقلاً حين شهادته عند الفرع، فلا يضرّ جنونه الطارئ عند أداء الفرع الشهادة عند الحاكم، فليكن الأمر كذلك فيما لو تغير حاله من العدالة إلى الفسق.
قال في (الجواهر): اللهم إلا أن يقال إن ظاهر الأدلّة كون الفسق مقتضياً لعدم القبول بخلاف الجنون والإغماء، فإن أقصاهما عدم قبول شهادتهما. فتأمل جيداً(34).
قلت: لكنه غير واضح، لأن اللام لا تعمل فيما قبلها، وإلا فإنه يأتي نفس الكلام في الجنون والإغماء أيضاً. ولعلّ هذا وجه التأمل الذي أمر به.
أقول: ولعلّ الفرق هو: إن دليل بطلان شهادة المجنون والمغمى عليه هو السيرة العقلائية غير المردوعة، فهم يشترطون العقل عند الأداء للشهادة، فإذا شهد في حال العقل والإفاقة ثم طرء الجنون والإغماء، لم يقدح ذلك في قبول الشهادة السابقة. وأما الفاسق فقد يعتمد بعض الناس على إخباره أو شهادته، فكانت آية النبأ(35) رادعة عن ذلك، فتكون الآية دليلاً لعدم القبول فيما نحن فيه، بدعوى اطلاق الأمر بالتبين ليشمل حال بعد الأداء أيضاً.
قال في (الجواهر): «نعم لو طرأ الجنون أو الإغماء لم يؤثر بناءاً على عدم قدح طرو ذلك في شاهد الأصل بعد إقامتها، وكذا العمى وإن افتقر أداء الشهادة إلى البصر، للاستغناء هنا ببصر الفرع، ضرورة كون هذه الطوارئ كالموت»(36).
أقول: إن البصر ليس شرطاً في وقت الأداء، بل هو شرط في التحمل فيما لا يتحقق الشهادة فيه إلا بالبصر، وحيث يعلم الفرع بتحمل الأصل له في حال البصر، يشهد بما شهد به الأصل، وإن كان عند سماع الفرع منه فاقداً له، وحينئذ، فلا مجال للتعليل بالاستغناء ببصر الفرع.
وعلى كلّ حال، فلو فرض زوال الموانع الطارئة قبل الشهادة عليه، فهل للفرع أن يشهد بالتحمل الاوّل أم يحتاج إلى تحمل جديد بناءاً على انعطاف الريبة إلى حالة التحمل؟ فيه وجهان، ناشئان من كونه عدلاً عند الشهادة عليه وعند أدائها، ومن الريبة المذكورة. كذا في (المسالك)(37).
لكن في (الجواهر): اختار عدم اعتبار تجديد التحمل، قال: لعدم اقتضاء طروّها حصولها في السابق الذي منه حال التحمل شرعاً ولا عرفاً، والمفروض كونه جامعاً حال التحمل، فلا يقدح طروّ الامور المزبورة بعد في حال فرض زوالها في ما قبله، لإطلاق أدلّة القبول(38).
قلت: إن العمدة هي الإستظهار من الأدلّة، فإن قلنا بعدم دلالتها على اشتراط بقاء الأصل على حال سماع الفرع منه إلى حين شهادة الفرع، فلا كلام، وإن قلنا بدلالتها على اشتراط عدم فسقه بعد الشهادة إلى حين أداء الفرع، وأن العدالة يجب استمرارها، فإن تحقق الفسق يؤثر وإن زال قبل الأداء لانقطاع الإستمرار.
ومقتضى ظاهر آية النبأ هو الأوّل. والله العالم.
(1) الظاهر أنه من الإفعال، وهكذا قرأته في محضر السيد الاستاذ دام ظله ثم رأينا المجلسي قدس سره يقول : « قوله: لم أشهده. أي أعلم أنه كاذب في ما ينسب إلي، أو لا أعلم الآن حقيقة ما يقول. ويمكن أن يقرأ من باب الإفعال، ولعلّه أظهر كما فهمه القوم » فيكون الخبر وارداً في خصوص صورة الاسترعاء، لكن الأصحاب فرضوا البحث في الصور الثلاث جميعاً وإن كان عبارة بعضهم كعلي بن بابويه على طبق النص ولعلّه لعدم القول بالفصل أو للقطع بالمناط.
لكن السيد الاستاذ رجح الوجه الأوّل، وأن مرجع الضمير هو « ما ينسب إليه » مثلاً، لكون هذا الوجه هو المناسب لبحث الفقهاء.
(2) وسائل الشيعة 27 : 405/1 . كتاب الشهادات ، الباب 46.
(3) وسائل الشيعة 27 : 405/2 . كتاب الشهادات ، الباب 46 .
(4) وسائل الشيعة 27 : 405/3 . كتاب الشهادات ، الباب 46.
(5) وسائل الشيعة 27 : 405 ، ذيل ح3.
(6) شرائع الإسلام 4 : 139.
(7) النهاية : 329 ، المهذب 2 : 561.
(8) مختلف الشيعة 8 : 511 ، المقنع : 399.
(9) رياض المسائل 15 : 416 ، المبسوط 8 : 233 ، السرائر 2 : 127 ، قواعد الأحكام 3 : 506 ، إيضاح الفوائد 4 : 450 ، مسالك الأفهام 14 : 279 ، غنية النزوع 2 : 442 ، غاية المراد 4 : 164 165.
(10) جواهر الكلام 41 : 203.
(11) جواهر الكلام 41 : 204 .
(12) شرائع الإسلام 4 : 139.
(13) قواعد الأحكام 3 : 506.
(14) تحرير الأحكام 5 : 283.
(15) مسالك الأفهام 14 : 280.
(16) جواهر الكلام 41 : 202.
(17) الوسيلة : 233 ـ 234.
(18) مختلف الشيعة 8 : 513.
(19) جواهر الكلام 41 : 202.
(20) جامع المدارك 6 : 155.
(21) مسالك الأفهام 14 : 280 ـ 281.
(22) جواهر الكلام 41 : 205.
(23) شرائع الإسلام 4 : 139.
(24) جواهر الكلام 41 : 206.
(25) شرائع الإسلام 4 : 140.
(26) كتاب الخلاف 6 : 320 ، المسألة 73.
(27) مختلف الشيعة 8 : 535.
(28) سورة الحجرات 49 : 6.
(29) سورة البقرة 2 : 124.
(30) لاحظ جواهر الكلام 40 : 114.
(31) المبسوط في فقه الإمامية 8 : 233.
(32) قلت: إن خلافهما في الصغرى دون الكبرى، وهو أنه إذا فسد الأصل فسد الفرع، بل يقولان بعدم الفساد في هذه الحالة..
(33) جواهر الكلام 41 : 206.
(34) جواهر الكلام 41 : 207.
(35) سورة الحجرات 49 : 6.
(36) جواهر الكلام 41 : 206.
(37) مسالك الأفهام 14 : 282.
(38) جواهر الكلام 41 : 207.