5 ـ في أنه متى تقبل الشهادة على الشهادة؟
قال المحقق قدّس سرّه: «ولا تقبل شهادة الفرع إلا عند تعذر حضور شاهد الأصل، ويتحقق العذر بالمرض وما ماثله، وبالغيبة ولا تقدير لها وضابطه: مراعاة المشقة على شاهد الأصل في حضوره»(1).
أقول: قال: الشيخ في (الخلاف): «الظاهر من المذهب أنه لا يقبل شهادة الفرع مع تمكن حضور شاهد الأصل، وإنما يجوز ذلك مع تعذره، إما بالموت، أو بالمرض المانع من الحضور، أو الغيبة. وبه قال الفقهاء، إلا أنهم اختلفوا في حد الغيبة، فقال أبو حنيفة: ما يقصر فيه الصلاة وهو ثلاثة أيام. وقال أبو يوسف: هو ما لا يمكنه أن يحضر معه ويقيم الشهادة ويعود فيبيت في منزله. وقال الشافعي: الإعتبار بالمشقة، فإن كان عليه مشقة في الحضور حكم بشهادة الفرع وإن لم تكن مشقة لم يحكم، والمشقة قريب مما قال أبو يوسف. وفي أصحابنا من قال يجوز أن يحكم بذلك مع الإمكان.
دليلنا على الأول: إنه إجماع، والثاني فيه خلاف، والدليل على جوازه: إن الأصل جواز قبول الشهادة على الشهادة، وتخصيصها بوقت دون وقت أو على وجه دون وجه، يحتاج إلى دليل. وأيضاً: روى أصحابنا أنه إذا اجتمع شاهد الأصل وشاهد الفرع واختلفا، فإنه تقبل شهادة أعدلهما، حتى أن في أصحابنا من قال تقبل شهادة الفرع وتسقط شهادة الأصل، لأنه(2) يصير الأصل مدعى عليه والفرع بينة المدعي للشهادة على الأصل»(3).
هذه عبارة الشيخ في (الخلاف) فههنا بحثان:
الأول: في أنه هل تقبل شهادة الفرع مع حضور الأصل، أو لا تقبل إلا عنده تعذره؟ المشهور كما في (المسالك) و (الكفاية) وغيرهما هو الثاني(4)، بل في عبارة الشيخ إنه الظاهر من المذهب، ثم دعوى الإجماع عليه. والدليل عليه خبر محمد بن مسلم(5)، وضعفه إن كان منجبر بما عرفت.
وقد نقل الشيخ الأوّل عن بعض أصحابنا ولم يذكر القائل، ولكن في (الدروس) و (المسالك): إن الشيخ قد مال إلى هذا القول(6)، قال في (المستند ): «لعلّه لنقله دليل عدم الاشتراط والسكوت عنه، وفي دلالته على الميل تأمل». وفيه عن (الدروس) نسبته إلى الإسكافي، (قال): وفيه نظر، كيف وصرح الاسكافي بالإشتراط(7).
وفي (الكفاية) إنه المنقول عن علي بن بابويه(8)، وتنظر في (المستند) في النسبة ـ بعد نقلها عن الأردبيلي ـ بقوله: إنه أيضاً لم يذكر إلا قبول شهادة الثاني بعد إنكار الأول(9).
والحاصل: إنه لم يظهر قائل بهذا القول من المتقدمين، نعم، عن (كشف اللثام): أن «الأقوى عدم الإشتراط، لضعف هذه الأدّلة والأصل القبول» ثم نقل بعض ما ذكره الشيخ في (الخلاف) عن بعض الأصحاب(10).
وأجاب عنه في (الجواهر) بقوله: وفيه: إنه يكفي في قطع الأصل خبر محمد ابن مسلم المتقدم المنجبر بالإجماع المحكي المعتضد بالشهرة العظيمة، أو الاجماع المحصل. وبما قيل: من أن الفرع أضعف ولا جهة للعدول إليه عن الأقوى إذا أمكن، ومن الافتقار إلى البحث عن الأصل والفرع جميعاً، وهو زيادة مؤنة. وإن كانا هما كما ترى(11).
أقول: وجه الإشكال في هذين الدليلين: إنه لا شبهة في أن أماريّة الأصل أقوى، ولكن الأقوائية وإن كانت مرجحة عند التعارض لا توجب سقوط الطرف الآخر عن الحجية حيث لا معارضة، وأما المؤنة الزائدة فللقائل بقبول الفرع مع وجود الأصل الإلتزام بها.
قال: وبما سمعته من الأدلة على وجوب الإقامة على شاهد الأصل(12).
أقول: وفيه: إنه إن كان تحمله لاعن دعوة فهو بالخيار، وإن كان عن دعوة، فإن المفروض تحقق الغرض بشهادة الفرع.
فظهر أن العمدة في الجواب عمّا ذكره كاشف اللثام هو الخبر، بناءاً على جبر عمل المشهور لضعفه، مضافاً إلى أن المرتكز في أذهان العقلاء وعليه سيرتهم هو تقديم الأصل على الفرع في هذه الصورة، لأن موضوع الاصول والأمارات هو «الشك» لكن ليس كلّ شك موضوعاً عندهم لإجراء الأصل والرجوع إلى الأمارة، فمن الشك ما يرتفع بأقل التفات ومراجعة، وفي مثله حيث يمكنهم الوصول إلى الواقع بسهولة لا يرجعون إلى الأمارة والأصل.
وعلى هذا الأساس، ليس من المرتكز في أذهانهم الرجوع إلى الفرع مع التمكن من الأصل… ومن هنا يمكن دعوى انصراف أدلة حجية الشهادة على الشهادة عن هكذا مورد، ولا أقل من الشك في شمولها له.
فتخلص: أن الأقوى هو القول المشهور.
هذا كلّه بالنسبة إلى البحث الأول.
وأما البحث الثاني، ففي ضابط العذر. وضابطه كما ذكر المحقق وغيره بل ادعي عليه الإجماع هو مراعاة المشقة… لخبر محمد بن مسلم المذكور سابقاً، خلافاً للعامة الذين اختلفوا على أقوال ذكرها الشيخ.
(1) شرائع الإسلام 4 : 139.
(2) لا يقال: بأنه في هذه الصورة يكون الفرع مدّعياً والأصل مدعى عليه، ومقتضى القاعدة توجه اليمين على الأصل لا تقدم الفرع.
لأنه يقال: المدعي على الأصل ليس الفرع بل صاحب الحق، إذ يدعي على الأصل شهادته للقضية، فإذا أنكر الأصل كان الفرع بينة لصاحب الحق، فيتقدم الفرع على الأصل.
(3) كتاب الخلاف : 6/314 ، المسألة 65.
(4) مسالك الأفهام 14 : 277 ، كفاية الأحكام 2 : 779 ، المهذب البارع 4 : 568.
(5) وسائل الشيعة 27 : 402/1 . كتاب الشهادات ، الباب 44.
(6) مسالك الأفهام 14 : 277 ، الدروس 2 : 141.
(7) مستند الشيعة 18 : 391.
(8) كفاية الأحكام 2 : 779.
(9) مستند الشيعة 18 : 392.
(10) كشف اللثام 10 : 366.
(11) جواهر الكلام 41 : 20.
(12) جواهر الكلام 41 : 200.