2 ـ في شهادة الولد على والده
أمّا شهادة الولد على والده، ففي قبولها خلاف بين الأصحاب على قولين، فالمشهور هو المنع، والمحكي عن المرتضى(1) وابن الجنيد(2) هو القبول، قيل: وقد مال إليه أكثر المتأخرين.
استدلّ للمنع بوجوه:
الأول: الإجماع، فقد حكي دعوى الإجماع عليه عن (الموصليّات)(3) للسيد و (الخلاف)(4) للشيخ و (الغنية)(5) لابن زهرة و (السرائر)(6) لابن ادريس.
والثاني: قوله تعالى: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفّ)(7). قال في (الإيضاح): يدلّ على تحريم تكذيبه، وأداء الشهادة عليه مظنة تكذيبه وأذاه، فيكون منهياً عنها، فلا تقبل(8).
والثالث: قوله تعالى: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً)(9). قال في (الإيضاح): وإذا حرم عليه أذاهما على الكفر ففي الشهادة عليه أولى(10).
والرابع: الأخبار، ففي (الخلاف) نسبة المنع إلى أخبار الفرقة(11)، ويدلّ عليه مرسلة الصدوق: «لا تقبل شهادة الولد على والده»(12) وضعفها منجبر بعمل الأصحاب.
واستدلّ للقبول بالكتاب والسنّة:
فمن الكتاب: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ …)(13).
وقد أُورد على الإستدلال بها: بأن الإقامة أعم من القبول(14).
وأُجيب: بأنه لولا القبول كان الأمر بالإقامة لغواً(15).
وأُجيب: بعدم انحصار الفائدة في القبول حتى تلزم اللغوية بدونه(16).
قال في (المختلف): فائدته تذكّر الأب لو كان ناسياً أو مشتبهاً عليه فيزيل اشتباهه(17).
قال في (الايضاح): وفيه نظر، لأن الأمر بالإقامة مع عدم القبول لا يجتمعان، لأن المفهوم والمقصود من الأمر بالإقامة هو القبول(18).
وبهذا يندفع ما ذكره صاحب (المستند) من أنه ليست الآية صريحة ولا ظاهرة في الأمر بالإقامة(19).
فالإنصاف: دلالتها على وجوب الإقامة، وأن الإشكال بعدم الملازمة بين الإقامة والقبول ضعيف، وأن الفوائد المذكورة نادرة.
ومن السنّة: عمومات قبول شهادة العدل، وخصوص الخبرين:
1 ـ علي بن سويد: «عن أبي الحسن عليه السلام في حديث: «فأقم الشهادة لله ولو على نفسك أو الوالدين والأقربين فيما بينك وبينهم، فإن خفت على أخيك ضيماً فلا»(20).
2 ـ داود بن الحصين: «سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أقيموا الشهادة على الوالدين…»(21).
هذا، مضافاً إلى أنه ليس إظهار الحق موجباً للعقوق ومنافياً للصحبة والمعاشرة بالمعروف، بل هو عين المعروف، بل هو مأمور به، ففي الحديث: «أُنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قيل: يا رسول الله، كيف أنصره ظالماً ؟ قال: تردّه عن ظلمه، فذاك نصرك إياه»(22).
على أن ما ذكروه منقوض بقبول الشهادة على الاُم.
أقول: والأظهر هو القول الأوّل، والعمدة هو الإجماع، فإن لم يثبت فلا أقل من الشهرة العظيمة، وهي جابرة للمرسلة، فتصلح لتخصيص قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ …)(23) بأن يكون المراد منها: إنّه يجب على المؤمنين تقديم حق الله على أنفسهم وعلى الوالدين فضلاً عن سائر الناس، إلا في خصوص الشهادة على الأب فلا يشهدون، كما أن الشهرة موهنة لخبري علي بن سويد وداود بن الحصين، بناء على تمامية السند في الثاني منهما.
فالأظهر هو القول الأول وفاقاً للمشهور والمحقق. قال: «سواء شهد بمال أو بحق متعلق ببدنه كالقصاص والحد»(24).
أقول: هذا إشارة إلى خلاف بعض العامة حيث قال بالتفصيل، محتجاً كما في (المسالك) بأنه لا يجوز أن يكون الولد سبباً لعقوبة الأب، كما لا يقتص به ولا يحدّ بقذفه(25). أي: كما لا يقتل الوالد في الولد، كذلك لا تقبل الشهادة منه الموجبة لقتل الوالد.
ولكنه قياس باطل.
ثم إنه هل يتعدّى الحكم إلى من علا من الآباء، ومن سفل من الأبناء أو لا؟
قال العلاّمة: وفي مساواة الجدّ للأب وإن علا للأب إشكال(26).
أقول: وجه الإشكال هو الشك في صدق «الوالد» على «الجد»، وفي صدق «الولد» على «ولد الولد». أما على القول بالقبول، فلا إشكال في قبولها على الجد بالأولويّة.
والتحقيق أن يقال: إن كان المستند للحكم بالمنع هو الإجماع، أمكن القول بعدم التعدي، أخذاً بالمتيقن من الدليل اللبي، وإن كان المستند هو الخبر المنجبر، جاء الإشكال من حيث الصدق وعدمه، لكنه في غير محلّه، فقد رتّب الشارع الأحكام من غير فرق بين الأب والجد، وبين الابن وابن الابن، فقد حرّم بقوله تعالى: (وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم)(27) على الابن منكوحة الأب والجد، وبقوله تعالى: (وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ)(28) على الأب حليلة الابن وابن الابن.
اللهم إلا أن يقال: بأن مقتضى العمومات من الكتاب والسنّة هو قبول الشهادة على كلّ أحد، خرج منه خصوص الأب بلا واسطة بسبب الخبر، وخروج غيره موقوف على دليل، وإذ ليس، فالمتيقن هو الأب الأدنى.
(1) إيضاح الفوائد 4 : 427 ، الدروس 2 : 132 ، المهذب البارع 4 : 520 ، الإنتصار : 496 / المسألة 273 .
(2) راجع مختلف الشيعة 8 : 494 ، مسالك الأفهام 14 : 195 ، جواهر الكلام 41 : 75 76.
(3) الموصليات ( رسائل المرتضى ) 1 : 246 ، عنه رياض المسائل 15 : 290 وجواهر الكلام 41 : 74.
(4) كتاب الخلاف 6 : 296 / مسألة 44 ، عنه في الرياض 15 : 290 وجواهر الكلام 41 : 74.
(5) غنية النزوع 2 : 440 . وعنه في الرياض 15 : 290 ، وجواهر الكلام 41 : 74.
(6) السرائر 2 : 134 . وعنه في الرياض 15 : 290 ، وجواهر الكلام 41 : 74.
(7) سورة الاسراء 17 : 23.
(8) إيضاح الفوائد 4 : 427.
(9) سورة لقمان 31 : 15.
(10) إيضاح الفوائد 4 : 427.
(11) كتاب الخلاف : 6/297 المسألة 44.
(12) وسائل الشيعة 27 : 369/6 . كتاب الشهادات ، الباب 26.
(13) سورة النساء 4 : 135.
(14) مختلف الشيعة 8 : 495 ، جواهر الكلام 41 : 75.
(15) المهذب البارع 4 : 521 ، مسالك الأفهام 14 : 196 ، مجمع الفائدة والبرهان 12 : 406 بالفاظ مختلفة .
(16) مستند الشيعة 18 : 250.
(17) نقل عنه ابنه في الإيضاح 4 : 427.
(18) إيضاح الفوائد 4 : 427.
(19) مستند الشيعة 18 : 249.
(20) وسائل الشيعة 27 : 315/1 . كتاب الشهادات ، الباب 3.
(21) وسائل الشيعة 27 : 340/3 . كتاب الشهادات ، الباب 19 . فيه « ذبيان بن حكيم الاودي » وهو مهمل في كتب الرجال، وفي معجم رجال الحديث 8/155: قيل إن في رواية الأجلاء عنه دلالة على وثاقته وجلالته ، ولكن قد مرّ ما في ذلك غير مرة ، ولكنه مع هذا وصف الخبر في المباني ( مباني تكملة المنهاج 1 : 97 ) بالصحيحة!
(22) مسالك الأفهام 14 : 195 ، جواهر الكلام 41 : 76 . وفي مسند أحمد 3 : 201 ، السنن الكبرى 6 : 94.
(23) سورة النساء 4 : 135.
(24) شرائع الإسلام 4 : 130.
(25) مسالك الأفهام 14 : 197.
(26) قواعد الأحكام 3 : 496.
(27) سورة النساء 4 : 22.
(28) سورة النساء 4 : 23.