هل يشهد بالملك لمن في يده دار مثلاً؟
ثم تعرّض المحقق لحكم الشهادة استناداً إلى اليد بقوله: «أما من في يده دار فلا شبهة في جواز الشهادة له باليد، وهل يشهد له بالملك المطلق؟ قيل: نعم ، وهو المروي، وفيه إشكال من حيث أن اليد لو أوجبت الملك له لم تسمع دعوى من يقول: الدار التي في يد هذا لي، كما لا تسمع لو قال: ملك هذا لي»(1).
أقول: نعم، لا شبهة في جواز الشهادة له باليد، وهل يشهد له بالملك المطلق؟ قولان. الأول: نعم، وهو المروي، رواه حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام. والثاني: لا، لأن اليد لا ظهور لها في الملكية، فلو كان لم يسمع دعوى من يقول: الدار التي في يد هذا لي كما لا تسمع لو قال: ملك هذا لي، من جهة كونه إقراراً بالملكية، لكن الدعوى مسموعة، فاليد أعمّ من الملكية، بخلاف التصرف، فإنه ظاهر فيها، وحينئذ، فلو آجر عيناً لغيره وهي في يد صاحبها، فامتنع المالك من تسليم العين إلى المستأجر، حكم للموجر المتصرف، من جهة كون تصرفه أقوى في الدلالة.
ونقض على المحقق: بأنه إذا لم تقبل تلك الدعوى، يلزم عدم قبول قوله: ما في يدي ملك لك، مع أنه مقبول، لأن اليد أعمّ من الملكية، فإذا قال ذلك فقد أقرّ بالملكية، ولو كانت اليد ظاهرة في الملك لكان هذا القول بمعنى: ما في ملكي ملك لك، وهذا تناقض.
وفي (الجواهر) نقضاً عليه: إنه يلزم عدم قبول ما إذا قال: ما في تصرّفك ملك لي، لأنكم تقولون بأن دلالة التصرف أقوى.
وأُجيب عن كلام المحقق حلاًّ: بأن اليد والتصرّف ظاهران في الملكية، وقوله: ملك ملكي نصّ فيها، ولا تمانع بين النص والظاهر.
وفي (المسالك) نسب ما ذكره المحقق إلى الشيخ في المبسوط(2).
وأُجيب أيضاً: بأن الشاهد له علم مطابق لليد أو التصرف، فيشهد بعلمه بلا فرق، وحيث لا يعلم لا يشهد بلا فرق كذلك.
ولكن هذا الجواب يبتني على اعتبار العلم في الشهادة، والكلام مع المحقق هو في الشهادة استناداً إلى الإستفاضة أو اليد أو التصرف، مع عدم إفادتها للعلم.
قال في (الجواهر): إن لم يوافق المحقق على النص المذكور من جهة ضعفه وعدم انجباره، فلا يجوز الشهادة استناداً إلى هذه الامور، لأن الشهادة غير إثبات الموضوع بشيء من الأدلة وهي السيرة والإجماع والأولوية. وأما مع اعتبار الخبر فالملازمة بين ثبوت الشيء والشهادة عليه ثابتة. لكن صاحب (الجواهر) ينكر دلالة الخبر(3).
وعلى الجملة، فإن العلم الحاصل من الإستفاضة كاف، بل يكفي إن أفاد الظن المتاخم، فله الشهادة على طبقه في الملك ونحوه، بل قيل: يكفي وإن لم يفد الظن أو كان الظن على الخلاف، ثم قالوا: إن الملك بذاته ليس مما يرى ولذا يكفي فيه السماع، ولكن هل يعتبر في الشهادة وجود ما يدلّ على الملك مما يشاهد كاليد والتصرف؟ قالوا: لا يشترط.
وحينئذ، فالإستفاضة وحدها كافية في الشهادة، فإن انضم إليها التصرف واليد فذاك منتهى الإمكان وقد ادعي الإجماع على أن للشاهد القطع بالملك حينئذ ـ وكذا اليد والتصرف بلا استفاضة، وأما اليد المجرّدة أو التصرف المجرّد، فلا إشكال في الشهادة بنفس اليد أو التصرف، وهل له الشهادة بالملك استناداً إليها؟ فيه كلام وخلاف.
فالصور في المسألة أربع، وقد تعرّض لها في (المسالك) بقوله: «إذا اجتمع في ملك يد وتصرف واستفاضة بالملك، فلا إشكال في جواز الشهادة له بالملك، بل هو غاية ما يبنى عليه الشهادة، وإنما يحصل الاشتباه فيما لو انفرد واحد من الثلاثة أو اجتمع اثنان…»(4).
وفي (التنقيح) ما حاصله: دلائل الملك أقسام:
أعلاها، وهو حصول الإستفاضة واليد والتصرف بلا منازع، وهو منتهى الإمكان، فللشاهد القطع بالملك إجماعاً.
والثاني: يد وتصرف بالهدم وتغيير الشكل وإيقاع عقود متكررة بغير منازع في الصورتين، لكن لاسماع.
والثالث: مجرد يد من غير تصرف، وهنا يشهد له باليد خاصة، وهل يشهد له بالملك؟
الرابع: مجرد التصرف(5)، وفيه مسائل:
قيل: يكفي في الشهادة بالملك مشاهدته يتصرف في ملكه، وفيه رواية، والأولى الشهادة بالتصرف(6)، وهو المشار إليه بقول الشيخ في الخلاف وتردده، وجعل ذلك رواية الأصحاب.
ثم إن كاشف اللثام ذكر أن الشهادة بمقتضى الطرق الشرعيّة نظير الشهادة بالمسبب بمشاهدة السبب الشرعي، فقال ما حاصله: تشبيه الشهادة بمقتضى الطرق الشرعيّة بالشهادة على أثر الأسباب الشرعيّة، فإنها أيضاً محتملة للفساد كما تحتمل الطرق التخلف(7).
واستغربه صاحب (الجواهر) وأشكل عليه بالفرق بين الأمرين، من جهة أن السبب لا يتخلّف عن تأثيره في المسبب، بخلاف الطرق فقد تتخلّف عن الإصابة للواقع، قال: إن الشارع قد جعل السبب في الظاهر سبباً للأثر فيه على وجه لم يتخلّف عن مقتضاه، بخلاف الطريق، فإنه قد جعله طريقاً مع تخلّفه ، إذ التصرف قد يجامع غير الملك، بخلاف البيع الصحيح بحسب الظاهر فإنه لا يتخلّف عن أثره فيه كالسبب في الواقع.
وإن أبيت عن ذلك وفرضت صورة يختلف فيها الشهادة بالسبب وبأثره، لم تجوز الشهادة بالأثر أيضاً، بل لابدّ فيها إذا كانت عند الحاكم من الشهادة بالسبب نفسه.
ولعلّه لذا أوجب الأصحاب ذكر السبب في الشهادة بالجرح ولم يجوّزوا الشهادة بالأثر، لاحتمال كونه غير مسبب عند الحاكم، وليس هو إلا للتجنب عن التدليس والتلبيس ونحوهما ومنه المقام حتى مع عدم المعارض أيضاً، لأن الشهادة بالأثر تقطع معارضة الخصم لو أرادها، والفرض أن واقع الشاهد غيره، أو على غير ذلك مما يوافق القوانين الشرعيّة.
قال: ومن ذلك يعرف أنه لا وجه لما في المسالك من دعوى موافقة الخبر المزبور للقوانين الشرعية، إذ من المعلوم أنها تقتضي كون الشاهد لا يشهد بعلم، وإلا على مثل الشمس ومثل الكف، والفرض أنه يشهد بمشكوك فيه أو مظنون العدم، وإن جوّز الشارع شراءه ممن في يده كذلك، لكن ذلك لا يقتضي الشهادة بملكيته له، إذ من المعلوم أن الشارع لم تكن له حقيقة شرعية في الشهادة ولا مراد شرعي، بل هي باقية على المعنى الذي هو الإخبار الجازم على الوجه المخصوص، فأيّ مدخليّة للثبوت الشرعي في تحقق معناها العرفي؟ نعم، إذا أراد الشهادة على مثل الشمس يشهد بالتصرف نفسه وباليد نفسها، فيحكم الحاكم بمقتضاها(8).
قلت: لعلّ نظر الشهيد إلى أنه إذا كان الخبر حجة، فإمّا يكون العلم موضوعاً، وإما يكون طريقاً، فإن كان طريقاً، تقدّم الخبر وروداً أو حكومة، وهذا موافق للقاعدة، وإن كان موضوعاً، يكون الخبر خاصاً، وهذا أيضاً موافق للقاعدة، إنما الكلام في استلزام العمل بهذا الخاص لتجويز الكذب، وهذا إشكال آخر لصاحب (الجواهر)، فلابدّ من حمل الخبر على صورة حصول العلم، بناءاً على إرادة العلم العادي العرفي منه في ضابط الشهادة، لا العلم الحقيقي الدقي ، فإن تشخيص حدود المفاهيم موكول إلى العرف.
(1) شرائع الإسلام 4 : 134.
(2) مسالك الأفهام 14 : 237.
(3) راجع جواهر الكلام 41 : 144.
(4) مسالك الأفهام 14 : 233.
(5) التنقيح الرائع : 314 315.
(6) المختصر النافع : 281.
(7) كشف اللثام 10 : 349 ، عنه جواهر الكلام 41 : 144.
(8) جواهر الكلام 41 : 145.