مسائل
المسألة الاولى
(في تخالف البينتين على من أعتق)
قال المحقق قدّس سرّه: «إذا شهد اثنان أن الميت أعتق أحد مماليكه وقيمته الثلث، وشهد آخران أو الورثة أن العتق لغيره وقيمته الثلث…»(1).
أقول: إذا شهد اثنان أن الميت أعتق غانماً وقيمته تساوي ثلث ماله، وشهد اثنان آخران أو ورثة الميت جميعهم بأنه أعتق سالماً وقيمته تساوي ثلث ماله كذلك، فعلى القول بأن المنجزات من الأصل عتق العبدان كلاهما، لقيام البينة الكاملة على عتق كلّ واحد منهما، بلا خلاف ولا اشكال، وعلى القول بأن المنجزات تخرج من الثلث، فالمعتق أحد العبدين دون الآخر إلا إذا أذن الورثة.
وحينئذ، فإن عرف السابق منهما كان هو المعتق، وإن جهل تاريخهما أو علم تاريخ أحدهما وجهل الآخر ولم نرجع إلى الاستصحاب لإثبات تأخر مجهول التاريخ عن معلومه لكونه أصلاً مثبتاً كان المرجع هو القرعة وإن احتمل التقارن بين العتقين، وذلك، لأنه لو اتفق عتقهما في حالة واحدة، قال الشيخ: يقرع بينهما ويعتق المقروع(2)، فالمحتمل أولى بذلك.
والدليل على هذا الحكم هو المرسل المعمول به في فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالعبيد الذين أعتقهم الأنصاري ولا يملك سواهم(3)، فهو حكم تعبدي خاص بمورده، ولذا لو عقد على أُختين في وقت واحد، يحكم ببطلان كليهما ولا يرجع إلى القرعة.
وفي (المسالك): ولو علم سبق أحدهما ولم يعلم عين السابق فوجهان، أحدهما: إنه يقرع كما لو اُعتقهما معاً، لأن معرفة السبق من غير معرفة السابق لا تنفع شيئاً، والثاني: إنه يعتق من كلّ واحد نصفه، لأنا لو أقرعنا لم نأمن خروج الرق على السابق وللسابق حق الحرية، فيلزم منه إرقاق حرّ وتحرير رق(4).
واعترضه في (الجواهر) بقوله: وهو من غرائب الكلام، ضرورة جريانه في كثير من موارد القرعة، التي استفاضت بها النصوص المصرحة بعدم خطأها، لو فوّض القارع فيها الأمر إلى الله تعالى الذي لا يخفى عليه خافية، ولذا لم يحتمله أحد من أصحابنا، نعم، هو أحد قولي الشافعي كما حكاه الرافعي(5).
قلت: بل احتمال التنصيف يخالف الواقع قطعاً، لأنه قد أعتق أحد العبدين بكامله، فالتنصيف مقطوع البطلان، أما مع القرعة فبغض النظر عن جواب (الجواهر) يكون اللازم الذي ذكره محتملاً.
هذا كلّه فيما لو كان كلّ منهما يساوي ثلث ما ترك الميت.
قال المحقق: «ولو اختلفت قيمتهما…»(6).
أقول: ذكر الشهيد الثاني هذا بقوله: ويتفرع على القولين ما لو قامت البينتان كذلك، لكن لأحد العبدين سدس المال، فإن قلنا بالقرعة وخرجت للعبد الخسيس عتق وعتق معه نصف الآخر ليكمل الثلث، وإن خرجت للنفيس، انحصر العتق فيه، وإن قلنا هناك يعتق من كلّ واحد نصفه فهنا وجهان:
أحدهما: إنه يعتق من كلّ واحد ثلثاه، لأن ما زاد على الثلث من المتبرع ينسب إلى جميع التبرع، وينقص بتلك النسبة من كلّ واحد منهم، وإذا نسبنا الزائد على الثلث وهو السدس هنا إلى جميع التبرع وهو النصف كان ثلثه، فيردّ العتق في ثلث كلّ واحد منهما وينفذ ثلثيه(7).
قال في (الجواهر): وبعبارة أخرى: إنه كما لو أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بسدسه، فإنه يعطى كلّ واحد ثلثي ما أوصى له به، وذلك لأن نسبة السدس مع الثلث ثلثان وثلث، فيقسم الثلث حينئذ بينهما، ثلثان منه لمن أوصى له بالثلث، وثلث منه لمن أوصى له بالسدس، لأن النقص الحاصل عليه على نسبة مالهما من الوصية، كما هو واضح.
والثاني: إنه يعتق من النفيس ثلاثة أرباع، ومن الخسيس نصفه، لأنه إن سبق إعتاق النفيس فجميعه حرّ، وإن سبق إعتاق الآخر فنصفه على التقديرين، وإنما النزاع والإزدحام في النصف الثاني، وهو قدر ثلث المال، فيقسم بينهما ، فيعتق من النفيس ربعه ومن الخسيس نصفه(8).
ثم قال في (المسالك): ونبّه المصنف بقوله: «وشهد آخران أو الورثة أن العتق لغيره» إنه لا فرق هنا بين شهادة الوارث وغيره، إذ لا تهمة للوارث تمنع شهادته هنا، وإن كانت واردة في غيره هذه الصورة كما سيأتي في ما لو شهدوا بالرجوع عن الأوّل. ويزيد الورثة عن الأجانب أنه لا يشترط هنا كونهم عدولاً، لأن شهادتهم بعتق الثاني مع عدم تعرضهم للأوّل بمنزلة الإقرار بعتقه مضافاً إلى ما ثبت بالبينة. نعم، يشترط كون الشاهد جميع الورثة كما يرشد إليه قول المصنف «أو الورثة». وقال في المسألة الثانية: وشهد من ورثته عدلان، ولو كانوا عدولاً كفى منهم اثنان كالأجانب(9).
ويرد على قوله: «وإن كانت واردة…» كما في (الجواهر) إنه لا تهمة في المسألتين(10)، لأنه إذا شهد الوارث بالرجوع عن الأوّل لا يقول ببقاء الموصى به على ملك الميت حتى ينتقل إلى الوارث فيكون متهماً في شهادته، بل يشهد برجوعه عن الأوّل إلى الثاني، فلا يجرّ بشهادته نفعاً إلى نفسه ليكون متهماً.
وأما اشتراط شهادة جميع الورثة، فظاهر الوجه، لأنه إذا شهد بعضهم، فقد أقرّ بانعتاق العبد بقدر سهمه، وحينئذ، يقرع بين هذا المقدار وكلّ العبد الآخر، فإذا شهد جميعهم فقد أقرّوا كلّهم بعتق العبد كلّه.
وأما اشتراط كون الشاهدين من الورثة عدلين في المسألة الثانية، فظاهر الوجه كذلك، لأن شهادتهما بالرجوع سواء كانت بعد دعوى الموصي له ذلك أو لا ـ ليست بمنزلة الإقرار، فيعتبر فيهما العدالة.
وأما قول (الجواهر): لكن إشكال المصنف في الثانية يأتي هنا ضرورة كون الورثة هم المدعى عليهم في المسألتين.
ففيه: إن المدعى عليه هو الموصى له الأوّل، والمدعي هو الموصى له الثاني، والوارثان شاهدان، فليس الورثة المدعى عليهم في المسألة الثانية.
(1) شرائع الإسلام 4 : 145.
(2) المبسوط في فقه الإماميّة 8 : 253.
(3) مسند أحمد 4 : 426.
(4) مسالك الأفهام 14 : 315.
(5) جواهر الكلام 41 : 244.
(6) شرائع الإسلام 4 : 145.
(7) مسالك الأفهام 14 : 316.
(8) جواهر الكلام 41 : 245.
(9) مسالك الأفهام 14 : 316 ـ 317.
(10) جواهر الكلام 41 : 246.