ثلاث مسائل
الاولى
(في أن التصرف في الشيء شاهد على الملك)
قال المحقق قدّس سرّه: «لا ريب أن المتصرف بالبناء والهدم والإجارة بغير منازع يشهد له بالملك المطلق»(1).
أقول: التصرف الظاهر في الملكية كالهدم والبناء، والبيع والشراء، تجوز الشهادة بالملكية استناداً إليه، وقد شرط المحقق عدم منازع ينازعه في ذلك، فإن وجد فلا يشهد لوهن الكاشفيّة.
وفي (المسالك): واعتبر في التصرف التكرر، لجواز صدور غيره من غير المالك كثيراً(2).
وعن (المبسوط) عدم كفاية التصرف في نحو الشهر والشهرين(3). لكن عن (الخلاف) التصريح بعدم الفرق بين الطويلة والقصيرة(4).
ويدلّ على ما ذهب إليه المحقق السيرة المستمرة، فإن الناس يتعاملون مع من تصدر منه تلك التصرفات العاملة مع المالك، فيشترون منه ويستأجرون ، ومن اشترى منه الشيء حلف على أنه ملك له.
ويدلّ عليه أيضاً: الإجماع عن الشيخ في (المسالك) وغيره(5).
وقد يستدلّ له بخبر حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام: «قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنه له؟ قال: نعم. قال الرجل: أشهد أنه في يده ولا أشهد أنه له، فلعلّه لغيره، فقال أبو عبد الله عليه السلام: أفيحلّ الشراء منه؟ قال: نعم. فقال أبو عبد الله عليه السلام: فلعلّه لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك، ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟ ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق»(6).
فإنه وإن لم يكن فيه لفظ «التصرف» لكن فيه دلالة على ذلك، بعموم قوله عليه السلام فيه: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق». إلا أن المحقق يفرق بين «التصرف» و «اليد»، فلا يجوز الشهادة استناداً إلى اليد، كما ستعرف.
وهذا الخبر وإن كان ضعيفاً سنداً إلا أنه منجبر بالشهرة، وفي (المسالك): إنه موافق للقوانين الشرعية، ولكن لم نعثر على غيره من النصوص، وقد ناقش في (الجواهر) في دلالته، كحديث فدك الذي استدلّ به في (الرياض) بعد خبر حفص قائلاً: قريب منه الصحيح المروي في الوسائل عن علي عليه السلام في حديث فدك، إنه قال لأبي بكر: «تحكم فينا بخلاف حكم الله تعالى في المسلمين؟ قال: لا. قال: فإن كان يد المسلمين على شيء يملكونه ادّعيت أنا فيه، من تسأل البينة؟ قال: إياك أسأل البينة على ما تدّعيه على المسلمين. قال: فإذا كان في يدي شيء فادّعى فيه المسلمون تسألني البينة على ما في يدي وقد ملكته في حياة رسول الله وبعده، ولم تسأل المؤمنين البينة على ما ادّعوه علي كما سألتني البينة على ما ادّعيته عليهم. الخبر»(7).
بأن الدلالة على أصل الملكية شيء، وجواز الاستناد إلى التصرف أو اليد في الشهادة عليها شيء آخر، على أنه ليس في خبر حفص تعرض للتصرف، اللهم إلا أن يكون بينه وبين اليد ملازمة، لا سيما في المدّة الطويلة، لكن ظاهر المحقق نفيها، وأنه لا يدلّ قوله عليه السلام: «لو لم يجز…» على جواز الشهادة استناداً إلى التصرف، إذ لا يختل بعدم الشهادة استناداً إليه أمر السوق ومعاش المسلمين، بخلاف اليد، فإن ذلك يلزم من عدم جواز الشهادة استناداً إليها قطعاً.
قلت: قد ذكرنا سابقاً أنه إن كان العلم المأخوذ في ضابط الشهادة طريقاً، فإن كلاًّ من التصرف واليد ونحوهما طريق، ولعلّ هذا مراد (المسالك) من موافقة خبر حفص للقواعد(8)، وإلا فمن البعيد القول بأن دليل كاشفية التصرف عن الملكية دليل على جواز الشهادة بها استناداً إلى التصرف وإن كان المراد منه العلم الموضوعي فلا يجوز العمل به، لأنه يقتضي جواز ما لا يجوز في الشرع، أو يحمل على غير الشهادة عند القاضي، لكنه خلاف الظاهر، فلاحظ.
ولعلّه لما ذكرنا قال المحقق في (النافع) بأن الأولى الشهادة بالتصرف دون الملك، لأنه دلالة على الملك وليس بملك(9).
وأما منع جواز الشهادة من جهة أن التصرف قد يكون من غير المالك، فقد يتصرف المستأجر في العين المستأجرة، فلا ظهور للتصرف في الملكية، فيشكل المساعدة عليه، لأن التصرف ظاهر في الملكية ظهوراً تامّاً عند العقلاء، وقد ذكرنا قيام السيرة عليه.
(1) شرائع الإسلام 4 : 134.
(2) مسالك الأفهام 14 : 235.
(3) المبسوط 8 : 182 . عنه مسالك الأفهام 14 : 235.
(4) كتاب الخلاف 6 : 264 ، المسألة 14 . عنه مسالك الأفهام 14 : 235.
(5) مسالك الأفهام 14 : 235.
(6) وسائل الشيعة 27 : 292/2 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 25.
(7) جواهر الكلام 41 : 141 ، وسائل الشيعة 27 : 293/3 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 25.
(8) مسالك الأفهام 14 : 236.
(9) المختصر النافع : 281 . وفيه : والأولى الشهادة بالتصرّف لأنه دلالة الملك …