لو قال أحد شهود الزنا بعد الرجم تعمدت
قال المحقق: «ولو قال أحد شهود الزنا بعد رجم المشهود عليه: تعمدت. فإن صدّقه الباقون كان لأولياء الدم قتل الجميع… أما لو لم يصدّقه الباقون لم يمض إقراره إلا على نفسه فحسب. وقال في النهاية: يقتل ويردّ عليه الباقون ثلاثة أرباع الدية(1). ولا وجه له»(2).
أقول: ذكر المحقق رحمه الله لهذا الفرع صورتين، فالاولى: أن يصدق باقي الشهود قول القائل منهم: «تعمدت» أي: أن يقولوا أيضاً: تعمدنا. هذا معنى عبارة المحقق وإن كانت غير واضحة فيه، وكذا لو ادّعى تعمّد الباقين مثله فصدّقوه. ولو كان المراد تصديقهم إياه في قوله «تعمدت» بمعنى علمهم الآن بكذبه في تلك الشهادة، وأنهم لو علموا بذلك في ذاك الحين لما شهدوا ، كان عليهم الدية ولا يقتلون.
والحكم في هذه الصورة هو: أن لأولياء الدم قتل جميع الشهود، ويردّون ما فضل عن دية المرجوم، أي يؤدّون لورثة كلّ واحد منهم ثلاثة أرباع الدية.
وإن شاء أولياء الدم قتلوا واحداً من الشهود مع رضا الباقين، وحينئذ يردّ الباقون تكملة دية المرجوم إلى ولي الدم بالحصص، بعد وضع نصيب المقتول.
وإن شاؤا قتلوا أكثر من واحد من الشهود، وعلى الأولياء ردّ ما فضل عن دية المرجوم إلى وراث المقتولين، وأكمل الباقون من الشهود ما يعوز بعد وضع نصيب المقتولين. فلو قتلوا اثنين منهم ردّوا على ورّاثهم ثلاثة أرباع الدية عن كلّ واحد، وعلى كلّ من الاثنين الباقيين ربع الدية، يؤدّى إلى ورّاث المقتولين.
هذا هو الحكم. وفي (الجواهر): لا إشكال في شيء من ذلك ولا خلاف(3). وفي (المسالك): الضابط إن الشهادة متى أوجبت القتل سواء كان بسبب الزنا أو بسبب القصاص أو الردّة، فالحكم ما ذكر من جواز قتل المتعمد، وأخذ الدية من الخاطي، وحكم الردّ مع زيادة المقتول على ما يفصل في بابه(4).
والصورة الثانية في هذا الفرع: أن لا يصدّق الباقون قول القائل من الشهود «تعمدت»، وفيها خلاف، فالمحقق رحمه الله قال: «لم يمض إقراره إلا على نفسه فحسب» قال في (المسالك): لاختصاص حكم الإقرار بالمقرّ، فإن اختار الولي قتله ردّ عليه ثلاثة أرباع ديته، وإن اختار أخذ الدية كان عليه الربع خاصة، لأنه إنما أقرّ بالشركة في القتل، وكذا لو قال: أخطأت.
وفي (المسالك) عن الشيخ في (النهاية): إن قال تعمدت قتل، وأدّى الثلاثة إليه ثلاثة أرباع الدية، وإن رجع اثنان وقالا: أوهمنا، اُلزما نصف الدية، وإن قالا: تعمدنا، كان للولي قتلهما ويؤدّي إلى ورثتهما دية كاملة بالسوية بينهما ، ويؤدّي الشاهدان الآخران إلى ورثتهما نصف الدية. وإن اختار الولي قتل واحد قتله، وأدّى الآخر مع الباقين من الشهود على ورثة المقتول الثاني ثلاثة أرباع الدية(5). (قال): ووافقه ابن الجنيد(6).
قلت: عبارة الشيخ مطلقة، فليس فيها قول الباقين «تعمدنا» أو «أخطأنا» أو ذكر لبقائهم على الشهادة، فهي بإطلاقها مخالفة لفتوى المشهور.
ومستند ما ذهب إليه كما في (المسالك) و (الجواهر) حسنة إبراهيم بن نعيم المتقدمة، الصريحة في أنه «يؤدي الثلاثة إلى أهله ثلاثة أرباع الدية»(7)، وهو مطلق، أي سواء أقرّوا بالخطأ أو ثبتوا على شهادتهم، وأما لو أقرّوا بالتعمد جاز قتلهم كذلك.
فالخبر يدلّ على قول الشيخ، لكن من الممكن حمله على الإقرار بالخطأ، أو على صورة شبه العمد، لأنهم لو كانوا يعلمون بكذب الرابع لما شهدوا، وحيث رجع انكشف لهم، فهو شبيه عمد وعليهم الدية.
فإن تم هذا الحمل فهو، وإلا فالخبر معرض عنه وإن كان معتبراً سنداً، لمخالفته للأصل، فإن أحداً لا يلزم بإقرار غيره.
ومن هنا قال العلاّمة بعد نقل قول الشيخ: «ليس بجيّد»(8) وقال المحقق: «لا وجه له».
وأما الإشكال في الخبر: بأن الرجوع عن الشهادة لا يلازم كون الشهادة بالزور(9). ففيه: إن جواب الامام عليه السلام يكشف عن كون تلك الشهادة زوراً.
فإن قيل: لما كان القاضي من قضاة الجور فإن الشهود كلّهم ضامنون، فيقتلون .
فإنه يجاب: بأن جواب الإمام عليه السلام منزّل على حكم الحاكم الذي يجوز الترافع إليه، مع أنه قد يتوقف إحقاق الحق على الرجوع إلى قاضي الجور، ومع التنزّل عن ذلك، فإنه لم يكن للشيعة مناص من إنفاذ حكم قضاة العامّة، فإن كانوا كاذبين في شهادتهم ضمنوا، وإلا فقد شهدوا عند هذا القاضي لأجل إحقاق الحق، فلا ضمان، بل الضامن في الواقع هو القاضي، أما الذي رجع عن شهادته فالقصاص جزاؤه.
والحاصل: إنه إن لم يرجع الباقون، فلا شيء عليهم، وإن رجعوا وقتل ولي الدم أكثر من واحد منهم، كان عليه فاضل الدية من ماله الخاص.
ولو قال: تعمدت الكذب وما ظننت قبول شهادتي في ذلك ففي (القواعد).
و (الجواهر): في القصاص إشكال(10).
أي: من أنه كان يظن أن هذه الشهادة لا تقبل، فلا يقتل المشهود عليه بها، فهو غير قاصد لقتله، فلا عمد فلا قصاص، ومن أنه قد قتل المشهود عليه بشهادته، فهو السبب فيه فالقصاص.
واختار في (القواعد) و (كاشف اللثام) وعن (المبسوط) أيضاً العدم(11)، قال : لكنه شبيه عمد، لأنه قصد الفعل ولم يقصد القتل، فلا تجب إلا الدية مغلّظة. وخالف في (التحرير) فاختار القصاص(12)، لاعترافه بتعمد ما يقتل غالباً.
قلت: وهو مشكل. والتفصيل في محلّه.
وقال في (القواعد): وكذا لو ضرب المريض لتوهمه أنه صحيح ما يتحمله الصحيح دون المريض فمات، على إشكال(13).
قلت: ووجه الاشكال ما ذكرنا.
قال (كاشف اللثام): وفي التحرير والارشاد القصاص فيه، مع أن العلامة في الإرشاد استقرب في الفرع الأوّل الدية كما هنا. وكأن الفرق بالمباشرة والتسبيب.
قال: وحاصل المسألتين: أنه إذا باشر أو سبب عمداً ما يقتل غالباً بظن أنه لا يقتل فقتل، فهل هو عمد أو شبيه عمد(14)؟
قلت: وظاهر عباراتهم أن الضمان على الشهود، لكن مقتضى القاعدة ضمان المباشر، لأن الشهود إنما شهدوا بالزنا، والحاكم حكم بالحدّ، إلا أن المباشر ضربه وهو يراه مريضاً، فهو الضامن.
وفي (القواعد): ولو صدّقه الباقون في كذبه في الشهادة أي إنه لم يشهد زناه لا في كذب الشهادة أي إن المشهود به واقع اختص القتل به، ولا يؤخذ منهم شيء(15).
قال كاشف اللثام: وإن اعترفوا بأنه لم يكن شهود الزنا بالحق متكاملة، بل على الولي ردّ فاضل الدية(16).
واعترضه في (الجواهر) بقوله: لا يخلو من نظر مع علمهم بالحال من أوّل الأمر(17).
قلت: وهو في محلّه، إلا إذا كانوا غافلين عن عدم حضور الرابع.
(1) النهاية : 335.
(2) شرائع الإسلام 4 : 143.
(3) جواهر الكلام 41 : 227.
(4) مسالك الأفهام 14 : 300.
(5) النهاية في مجرّد الفتوى : 335 ، بتفاوت.
(6) مسالك الأفهام 14 : 301 ، مختلف الشيعة 8 : 525.
(7) مسالك الأفهام 14 : 301 ، جواهر الكلام 41 : 227.
(8) قواعد الأحكام 3 : 510.
(9) جامع المدارك 6 : 160.
(10) قواعد الأحكام 3 : 509 ، جواهر الكلام 41 : 228.
(11) قواعد الأحكام 3 : 509 ، كشف اللثام 10 : 376 ، المبسوط 8 : 246.
(12) تحرير الأحكام 5 : 285.
(13) قواعد الأحكام 3 : 509.
(14) كشف اللثام 10 : 376.
(15) قواعد الأحكام 3 : 510.
(16) كشف اللثام 10 : 377.
(17) جواهر الكلام 41 : 228.