في وجوب الأداء و كونه على الكفاية أو العينية
قال المحقق قدّس سرّه: «أما الأداء فلا خلاف في وجوبه على الكفائية»(1).
أقول: في الفرع بحثان: الأوّل: في وجوب الأداء. والثاني: في أن وجوبه على الكفائية.
أما الأوّل: فقد ادعي عليه الإجماع في كلمات جماعة، فهذا أحد الأدلّة.
والدليل الثاني: قوله تعالى: (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)(2) فإن ظاهر الوعيد على الترك هو الوجوب، والمراد من هذه الشهادة كما دلّت عليه صحيحة هشام الآتية أداؤها.
والدليل الثالث: الأخبار، ومنها:
1 ـ هشام بن سالم: «عن أبي عبد الله عليه السلام: في قول الله عزّوجلّ (وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) قال: بعد الشهادة»(3).
2 ـ جابر: «عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال: رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من كتم شهادة أو شهد بها ليهدر بها دم امرئ مسلم أو ليزوي بها مال امرئ مسلم، أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مدّ البصر، وفي وجهه كدوح تعرفه الخلائق باسمه ونسبه، ومن شهد شهادة حق ليحيى بها حق امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نور مدّ البصر تعرفه الخلائق باسمه ونسبه. ثم قال أبو جعفر عليه السلام: ألا ترى أن الله عزّوجلّ يقول (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ)(4)»(5).
3 ـ الحسين بن زيد: عن الصادق عن آبائه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث المناهي: «إنه نهي عن كتمان الشهادة وقال: من كتمها أطعمه الله على رؤوس الخلائق، وهو قول الله عزّوجلّ (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)(6)»(7).
4 ـ عيون الأخبار عن أبي الحسن الكاظم عليه السلام في حديث النص على الرضا عليه السلام إنه قال: «وإن سئلت عن الشهادة فأدها، فإن الله يقول: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)(8) وقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ)(9)»(10).
5 ـ عقاب الأعمال عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال في حديث: «ومن رجع عن شهادته أو كتمها، أطعمه الله لحمه على رؤوس الخلائق ويدخل النار وهو يلوك لسانه»(11).
6 ـ تفسير الحسن العسكري عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام بتفسير الآية: «من كان في عنقه شهادة فلا يأب إذا دعي لإقامتها وليقمها ولينصح فيها ولا تأخذه فيها لومة لائم وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر»(12).
وأما الثاني: ففي عبارة المحقق قدّس سرّه وغيره عدم الخلاف في كفائيته قال: «فإن قام غيره سقط عنه، وإن امتنعوا لحقهم الذم والعقاب، ولو عدم الشهود إلا اثنان تعيّن عليهما»(13). بل في (الجواهر): استفاض في عباراتهم نقل الإجماع على ذلك(14).
أقول: تارة: يكون التكليف قابلاً للتكرار، واُخرى: غير قابل له، كدفن الميت. أما الثاني، فلا احتمال فيه للوجوب العيني. وأما الأول، ففيه وجهان: العينية: من جهة ظهور الأمر فيها كما أشرنا سابقاً، والكفائية: من جهة ظهور كون الحكمة في وجوب الأداء وحرمة الكتمان هي ضياع الحق، وهذا الغرض يتحقق بشهادة البعض ولا يتوقف على شهادة الجميع، فلا ثمرة لتكليف الجميع بها.
ومن هنا أمكن القول بأن النزاع لفظي، لأن ذاك يقول بالعينية حيث تترتب ثمرة على القول بها، وهذا يقول بالكفائية حيث لا ثمرة لتوجيه الخطاب إلى الكلّ.
وقد ذكر صاحب (الجواهر) إن القائل بالعينية يقول: بأنه يجب الأداء على كلّ فرد فرد، ولا يسقط عنه الوجوب إلا مع التيقن بحصول الغرض بشهادة غيره من الشهود، والقائل بالكفائية يقول: لا يجب الأداء إلاّ مع العلم بضياع الحق، فالنزاع معنوي.
قلت: إن كان ما ذكره مستفاداً من الأخبار فهو، إذ يكون حينئذ حكماً تعبدياً، وإلا، فإن العقل لا يفرق في لزوم الإحتياط ـ لغرض حفظ الحق عن الضياع ـ بين العينية والكفائية إلى أن يحصل اليقين بحصول الغرض، فلننظر في الأخبار في هذا المقام، فنقول:
إن مقتضى إطلاق الآية الكريمة والأخبار وجوب الأداء على كلّ من شهد، سواء اُشهد أو لا، لكن مقتضى بعض الأخبار هو عدم الوجوب إن لم يشهد:
1 ـ محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: «إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها فهو بالخيار، إن شاء شهد وان شاء سكت»(15).
2 ـ هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام: «إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها فهو بالخيار، إن شاء سكت. وقال: إذا اُشهد لم يكن له إلا أن يشهد»(16). فقوله «إذا اُشهد…» تصريح بمفهوم صدر الخبر.
3 ـ محمد بن مسلم: «سألت أبا جعفر عن الرجل يحضر حساب الرجلين فيطلبان منه الشهادة على ما سمع منهما. قال: ذلك إليه، إن شاء شهد وإن شاء لم يشهد، وإن شهد شهد بحق قد سمعه، وإن لم يشهد فلا شيء لأنهما لم يشهداه»(17).
4 ـ محمد بن مسلم عن أبي جعفر مثله(18).
مقتضى هذه النصوص عدم الوجوب إذا لم يشهد، فلا يحرم الكتمان حينئذ، فهي مقيدة لما تقدمت الإشارة إليه. لكنها مطلقة من حيث العلم بضياع الحق وعدمه، وفي بعض الأخبار ما يقيدها بما إذا لم يؤد عدم شهادته إلى ضياع الحق، وإلا يجب حتى مع عدم الإستشهاد:
1 ـ محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: «إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد وإن شاء سكت، إلا إذا علم من الظالم فيشهد ولا يحلّ له إلا أن يشهد»(19).
2 ـ يونس فيما رواه مرسلاً عن الصادق: «إذا سمع الرجل… إلا إذا علم من الظالم فيشهد ولا يحلّ له أن لا يشهد»(20).
3 ـ مرسلة الصدوق: «قال الصادق: العلم شهادة إذا كان صاحبه مظلوماً»(21).
فتلخص: إن الشهادة واجبة فيما إذا دعي، بالوجوب العيني، فإن لم يدع فهو بالخيار، فلا وجوب لا عيناً ولا كفاية، إلا إذا علم من الظالم، بمعنى توقف شهادته على علمه بالظالم منهما لولا الشهادة.
خلافاً لصاحب (الجواهر) القائل بالكفائية في صورة الاستدعاء للتحمل، وعدم الوجوب أصلاً في صورة عدم الاستدعاء إلا إذا علم الظالم. وكأن معتمده هو الإجماعات التي لم يعلم كاشفيتها عن رأي المعصوم، بل من المحتمل كونها مبنية على كون الحكمة في وجوب الأداء وحرمة الكتمان ضياع الحق، وهي متحققة بشهادة الاثنين.
ثم قال: رحمه الله يمكن أن يكون محلّ كلامهم في المقام خصوص الشهادة في صورة المخاصمة التي تقام عند الحاكم، وأما الشهادات في غيرها كالشهادة بالاجتهاد والعدالة ونحوها مما لا ترجع إلى مخاصمة عند الحاكم ولا يراد إثباتها عنده، فلا يبعد القول بوجوبها عيناً على كلّ من كانت عنده، ولا مدخلية لكيفية التحمل فيها، لظهور الأدلّة السالمة عن المعارض بالنسبة إلى ذلك، بعد تنزيل الإجماعات المزبورة على غير هذه الصورة التي لا غرض بمقدار مخصوص منها، بل ربما كان الغرض تعدد الشهادة فيها لكونه أتم للمقصود، فتأمل جيداً(22).
قلت: القول بالوجوب عيناً في كلّ شيء وإن لم تكن مخاصمة لا يمكن المساعدة عليه، فإن كثيراً من الامور يعلمها الإنسان ولا دليل على وجوب أداء الشهادة وإظهار العلم فيها… بل قد لا يجب عليه الأداء حتى مع الاستدعاء، والحاصل: إنه لا ضابط لهذه الامور، نعم، لا ريب في الوجوب في الامور المهمة التي يعلم بعدم رضا الله عزّوجل بكتمان الشهادة فيها، ولعلّ هذا الذي ذكرناه هو وجه التأمل الذي أمر به.
وحيث يتعيّن عليه وجوب الأداء، فإن عليه المبادرة إليه وإن كان واحداً، حتى يتحقق الحق بشهادته مع يمين المدعي إن كان مما يثبت بذلك، بل يجب عليه وإن لم يكن مما يثبت بشاهد ويمين إن كان لشهادته أثر، وفي (الجواهر ) الوجوب وإن لم يعلم بترتب أثر عليها بل احتمل، كما إذا احتمل حصول العلم للحاكم بشهادته، أو احتمل تذكر المدعى عليه بشهادته للحق والواقع.
ولو نسي المدعي الاستشهاد منه، فإن كان الأداء واجباً عليه عيناً وجب عليه أن يذكر المشهود له فيستدعي منه الأداء لئلاّ تكون شهادته تبرعيّة فإن علم بضياع الحق لو لم يشهد، وجب عليه وإن لم يدع للإقامة، وإن كان وجوبه كفائياً وقد تعين فكذلك، وإلا فلا.
وفي (الرياض): ولو لم يكن الشهود عدولاً، فإن أمكن ثبوت الحق بشهادتهم ولو عند حاكم الجور، وجب الإعلام أيضاً، للعموم، وإلا فوجهان ، أجودهما: الوجوب لذلك مع إمكان حصول العدالة بالتوبة(23).
قال في (الجواهر): كأن الأجود أيضاً وجوب الشهادة عليهم إذا دعوا إليها ولو عند حاكم العدل(24).
(1) شرائع الإسلام 4 : 138.
(2) سورة البقرة 2 : 283.
(3) وسائل الشيعة 27 : 309/1 . كتاب الشهادات ، الباب 1.
(4) سورة الطلاق 65 : 2.
(5) وسائل الشيعة 27 : 312/3 . كتاب الشهادات ، الباب 2.
(6) سورة البقرة 2 : 283.
(7) وسائل الشيعة 27 : 313/4 . كتاب الشهادات ، الباب 2.
(8) سورة النساء 4 : 58.
(9) سورة البقرة 2 : 14.
(10) وسائل الشيعة 27 : 313/5 . كتاب الشهادات ، الباب 2.
(11) وسائل الشيعة 27 : 314/6 . كتاب الشهادات ، الباب 2.
(12) وسائل الشيعة 27 : 314/7 . كتاب الشهادات ، الباب 2.
(13) شرائع الإسلام 4 : 138.
(14) جواهر الكلام 41 : 184.
(15) وسائل الشيعة 27 : 317/1 . كتاب الشهادات ، الباب 5.
(16) وسائل الشيعة 27 : 318/2 . كتاب الشهادات ، الباب 5.
(17) وسائل الشيعة 27 : 318/5 . كتاب الشهادات ، الباب 5.
(18) وسائل الشيعة 27 : 319/6 . كتاب الشهادات ، الباب 5.
(19) وسائل الشيعة 27 : 318/4 . كتاب الشهادات ، الباب 5.
(20) وسائل الشيعة 27 : 320/10 . كتاب الشهادات ، الباب 5.
(21) وسائل الشيعة 27 : 319/9 . كتاب الشهادات ، الباب 5.
(22) جواهر الكلام 41 : 186.
(23) رياض المسائل 15 : 381.
(24) جواهر الكلام 41 : 187.