في مستند الشهادة:
1 ـ المشاهدة
قال المحقق قدّس سرّه: «ومستندها إما المشاهدة أو السماع أو هما…»(1).
أقول: قد تقدم أن الضابط في الشهادة هو «العلم» وأن الشهادة بلا علم غير مسموعة، ثم إن حصول العلم بالشئ يكون بواسطة الحواس غالباً، فالمبصرات بالإبصار، والمسموعات بالسمع وهكذا… ومقتضى كون الضابط هو «العلم» أن يكون للإبصار والسمع وغيرهما طريقية لا موضوعية ، لكن ظاهر قول المحقق: «فما يفتقر إلى المشاهدة: الأفعال، لأن آلة السمع لا تدركها، كالغصب والسرقة والقتل والرضاع والولادة والزنا واللواط، فلا يصير شاهداً بشيء من ذلك إلا مع المشاهدة»(2). هو الموضوعية للإبصار في المبصرات، مع أن الإنسان كثيراً مّا يحصل له العلم بسماع شيء من المبصرات وكأنه قد رآه.
وحيث أن الشرط في المبصرات عند المحقق هو الإبصار من غير مدخلية للسمع فيه، قال:
«ويقبل فيه شهادة الأصم. وفي رواية: يوخذ بأوّل قوله لا بثانيه، وهي نادرة»(3). فإذا رأى بعينه قبلت شهادته مطلقاً وإن كان أصم، وأما الرواية فهي:
جميل قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن شهادة الأصم في القتل. فقال: يؤخذ بأول قوله ولا يؤخذ بالثاني»(4).
وقد أجاب عنها بكونها «نادرة».
وكيف كان، فإن الكلام في اشتراط المشاهدة في الأفعال، مع أن الضابط في الشهادة هو العلم، وأن أدلّة قبول شهادة العالم العادل عامة، ومن هنا أشكل فيه جماعة، قال السبزواري: «وفيه إشكال، إذ السماع قد يفيد العلم»(5). وقال كاشف اللثام: «ولعله يمكن استناد الشهادة فيها إلى التواتر، فإنه يفيد العلم كالمشاهدة، ويجوز أن يكون مراد الأصحاب بالاستناد إلى المشاهدة ما يعم الاستناد إليها بلا واسطة أو بها»(6).
وقال صاحب (الرياض): «ويشكل فيما لو أفاده، لعدم دليل على المنع حينئذ، مع عموم أدلة قبول شهادة العالم.
وإلى هذا الإشكال أشار المولى الأردبيلي، فقال بعد أن نقل عنهم الحكم بعدم كفاية السماع فيما مرّ من الأمثلة: وفيه تأمل، إذ يجوز أن يعلم هذه الامور بالسماع من الجماعة الكثيرة بقرائن أو غيرها، بحيث يتيقن ولم يبق عنده شبهة أصلاً، كسائر المتواترات والمحفوفات بالقرائن، فلا مانع من الشهادة حينئذ لحصول العلم(7). ونحوه صاحب (الكفاية). وهو في محله.
إلا أن ظاهر كلمة الأصحاب الإطباق على الحكم المزبور، فإن تم حجة وإلا فالرجوع إلى العموم أولى، إلا أن يمنع بتخيل أن ما دلّ عليه متضمن للفظ الشهادة، وهي لغة الحضور، وهو بالنسبة إلى العالم غير المستند علمه إلى الحس من نحو البصر وغيره مفقود، إذ يقال له عرفاً ولغة: إنه غير حاضر للمشهود، واشتراط العلم المطلق فيما مر من الفتوى والنص غير مستلزم لكفاية مطلقه بعد احتمال أن يكون المقصود من اشتراطه التنبيه على عدم كفاية الحضور الذي لم يفد غير الظن، وأنه لابدّ من إفادته العلم القطعي، ومحصله حينئذ أنه لابدّ مع الحضور من العلم، إلا أن مطلقه يكفي.
هذا، وربما كان في النبوي ونحوه إشعار باعتبار الرؤية ونحوها مما يستند إلى الحس الظاهري، مع أن القطع المستند إلى الحس الباطني ربما يختلف شدّة وضعفاً، ولذا يتخلّف كثيراً، فلعلّ الشاهد المستند علمه إليه يظهر عليه خلاف ما شهد به، فكيف يطمئن بشهادته؟
وهذا الخيال وإن اقتضى عدم الإكتفاء بالعلم المستند إلى التسامع والإستفاضة فيما سيأتي، إلا أن الإجماع كاف في الإكتفاء به فيه، مضافاً إلى قضاء الضرورة ومسيس الحاجة، اللذين استدلّوا بهما للاكتفاء به فيه، وهذا أوضح شاهد على أن الأصل في الشهادة عندهم القطع المستند إلى الحس الظاهري، إعتباراً منهم فيها للمعنى اللغوي مهما أمكنهم. وهذا الوجه من الخيال وإن كان ربما لا يخلو عن نظر، إلا أن غاية الإشكال الناشيء من الفتاوى والعمومات الرجوع إلى حكم الأصل ومقتضاه، ولا ريب أنه عدم القبول. فاذاً، الأجود ما قالوه لكن مع تأمل»(8).
قلت: وبالتأمل في هذا الكلام يظهر عدم ورود نقض (الجواهر) باقتضائه عدم صحة الشهادة لنا لأمير المؤمنين بنصب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم له إماماً يوم غدير خم، ولا على أبي بكر وعمر بغصب فدك من الزهراء… ونحو ذلك من الامور الواصلة إلينا بالتواتر أو بالأخبار المخفوفة بالقرائن، قال: بل يقتضي هذا الكلام أن لا تكون الشهادتان شهادة حقيقة، لعدم الحضور فيها(9)… وذلك، لأن صاحب (الرياض) وإن قال بأن اشتراط كون العلم في الشهادة عن حس هو الأصل، لكنه قيّده بصورة الإمكان، ونصّ على قبول الشهادة مع العلم غير المستند إلى الحس في موارد، لمسيس الحاجة وقضاء الضرورة، وادعى الإجماع على القبول في تلك الموارد.
وبعبارة أخرى: إن الشهادة لغة الحضور، وأداء الشهادة لغة وعرفاً: إظهار العلم والإخبار عنه، فإن كان المشهود به من الامور الحسيّة التي يمكن الإخبار بها عن حس، بأن يحضر الأمر فيشاهده أو يسمعه، فهذا لا تقبل الشهادة فيه إلا كذلك، وإن كان من الامور الإعتقاديّة كالشهادتين، فالشهادة فيه إخبار عن الإعتقاد الجازم وإظهار للعلم القطعي به، وإن كان من الامور الحسيّة لكن الإخبار عنه بالعلم المستند إلى الحس متعذر، لوقوعه في الزمان السابق كواقعة غدير خم، أو متعسّر لصعوبة الحضور عنده لبعده عن مكانه وبلده، فيكفي في الشهادة العلم الحاصل بالتواتر ونحوه.
ولا ينافي ما ذكر كون الأصل في الشهادة الحضور، بل قد ورد الشهادة في اللغة بمعنى الإخبار عن جزم كما هو المصطلح عليه شرعاً.
وبالجملة، لا يرد على (الرياض) شيء مما ذكر صاحب (الجواهر)، إذ الأصل الذي ذكره يعتبر مهما أمكن، وعليه السيرة العقلائية كما أشار هو إليها ، وهذه السيرة متصلة بزمان المعصوم، ولعل في قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم «على مثلها فاشهد أودع»(10) إشارة إلى ذلك، أي: إن رأيت الأمر كما ترى الشمس فاشهد وإلا فدع الشهادة وإن حصل لك العلم عن طريق غير الرؤية(11)… وبالاعتبار «مهما أمكن» يجمع بين الأصل وما تقدم من أن الضابط هو العلم…
وأما كلمات الأصحاب كالمحقق ومن تبعه، فظاهرها التنافي للضابط المذكور كما أشرنا، وهذا ما لا يخفى على من راجعها في كتبهم مثل (التنقيح)(12) و(التحرير)(13) و(المسالك)(14)…
وبذلك تعرف ما في كلام كاشف اللثام وكلام (الجواهر): بل لعلّ الأصحاب لا يخالفون في ذلك، وإنما غرضهم في الكلام المزبور استثناء ما يثبت بالسماع وإن لم يصل إلى حدّ العلم في الامور السبعة أو الأزيد كما تعرف، لا اعتبار كون الشهادة بطريق البصر بحيث لا يجوز غيره، وإن حصل العلم القطعي حتى بالتواتر ونحوه مما ينتهي إلى المشاهدة أيضاً بالواسطة…
فإن الحمل المذكور يخالف ظواهر كلماتهم.
(1) شرائع الإسلام 4 : 132.
(2) شرائع الإسلام 4 : 132.
(3) شرائع الإسلام 4 : 132.
(4) وسائل الشيعة 27 : 400/3 . كتاب الشهادات ، الباب 42.
(5) كفاية الأحكام 2 : 764.
(6) كشف اللثام 10 : 341.
(7) مجمع الفائدة والبرهان 12 : 444.
(8) رياض المسائل 15 : 363 ـ 364.
(9) جواهر الكلام 41 : 130.
(10) وسائل الشيعة 27 : 342/3 . كتاب الشهادات ، الباب 20.
(11) هذا لا يخلو عن تأمل ، وإن كنا ذكرناه بعنوان « لعل ».
(12) التنقيح الرائع 4 : 309 311.
(13) تحرير الأحكام 5 : 261 ـ 265.
(14) مسالك الأفهام 14 : 226.