في شهادة الأعمى في العقد و على العاقد
«أما الأعمى فتقبل شهادته في العقد قطعاً، لتحقق الآلة الكافية في فهمه، فإن انضمّ إلى شهادته معرّفان جاز له الشهادة على العاقد مستنداً إلى تعريفهما، كما يشهد المبصر على تعريف غيره»(1).
أقول: إذا فقد الشاهد البصر، توقف شهادته على العاقد على تعريف عدلين له، فإذا عرفاه شهد كما قال المحقق هنا، وفي (النافع) «ولا يشهد إلا مع المعرفة أو شهادة عدلين بالمعرفة»(2).
قال في (الرياض): «لا خلاف بين الأصحاب فيما أعلم في اعتبارهم العلم الشرعي المستند إلى شهادة العدلين أيضا. (قال): بل ظاهر السرائر الإجماع عليه، فإنه قال: فإذا حضر الشاهد فلا يجوز له أن يشهد إلا على من يعرفه، فإن أراد أن يشهد على من لا يعرفه، فليشهد بتعريف من يثق إلى ديانته من رجلين عدلين عند أصحابنا…»(3).
وفي (الكفاية): «قالوا: فالأعمى إن انضمّ إلى سماعه معرّفان يشهدان على العاقد جاز له الشهادة عليه»(4).
وعلى الجملة، فلا كلام في جواز الشهادة، والمستند في الجواز هنا كما في (الرياض) عن ظاهر السرائر إنما هو فتوى الأصحاب.
وفي (الجواهر): لعلّه لإطلاق خبر محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام: «سألته عن شهادة الأعمى فقال: نعم، إذا أثبت»(5) بناء على أن المراد من إثباته ما يشمل شهادة العدلين، مضافاً إلى النصوص الدالّة على جواز الشهادة على المرأة إذا حضر من يعرفها، بعد حمل ما في بعضها من وجوب كشفها عن وجهها وعدم الإجتزاء بشهادة العدلين على التقية(6).
وحيثما استندت شهادته إلى شهادة العدلين، فهل يذكر الشهادة مطلقة كالبصير أو لا، بل يقول: أشهد على فلان بتعريف فلان وفلان؟ ذهب الأكثر إلى الأوّل، وهو ظاهر عبارة المحقق في (النافع)(7) وقد تبعه السيد صاحب (الرياض)(8) لكن عبارته هنا ليست مثلها في الظهور، ومن هنا احتمل في (الجواهر) كون المراد منها هو الثاني(9)، لكن يضعّفه عدم تعرض (الرياض) له.
وكيف كان، فقد نسب الثاني إلى جماعة من الأصحاب، ومنهم الحلي في (السرائر)(10) والفاضل في (التحرير) وغيره(11)، بل عن (كشف اللثام) إرساله إرسال المسلّمات(12).
وتظهر الثمرة في كونه شاهد أصل أو فرعاً، فمقتضى الأوّل: كونه شاهد أصل، ومحصّله كفاية العلم الشرعي في الشهادة، فيكون المقام من موارد الاستثناء من الضابط فيها وهو «العلم»، من جهة ظهوره في معناه الحقيقي لغة وعرفاً.
وفي (الجواهر) بعد القول الثاني: «ومقتضاه عدم قبول الشهادة إذا لم تكن على الوجه المزبور، لما فيه من إيهام المعرفة بنفسه، وقطع الطريق على الخصم لو أراد جرح شهود التعريف مثلاً، بل هذا يومئ إلى أن شهادة التعريف من شهادة الفرع أو بحكمها، الذي ستعرف أنه كذلك فيها، وحينئذ ينقدح من هذا أنه لا استثناء لهذه الصورة من ضابط العلم…»(13).
أقول: تارة: يقول المعرفان: هذا الشخص هو العاقد فيقول الأعمى: هذا هو العاقد كما يقول المعرّفان، فهذه شهادة فرع، وأخرى: يقولان للأعمى: الذي سمعته أجرى العقد هو هذا، فشهد الأعمى على العاقد، فهذه شهادة أصل لا فرع، غير أن العاقد تعين بتعريف العدلين، ومورد الخلاف هو الصورة الثانية ، وقد اختار العلامة في (التحرير) الوجه الثاني، إلا أنه نص على أنه لا يكون شاهد فرع، فقد قال: «ولو شهد عنده عدلان بالنسب شهد عليه مستنداً إلى شهادة المعرفين بالتعريف، فيقول أشهد على فلان بتعريف فلان وفلان، ولا يكون في الإقرار شاهد فرع»(14).
فكلامه صريح في خلاف ما ذكره (الجواهر) بقوله: «بل هذا يومي…» نعم، يمكن حمل عبارة (التحرير) على أنها شهادة أصل بالنسبة إلى السمع وشهادة فرع بالنسبة إلى البصر، وكيف كان، فليست شهادة الفرع.
وعبارة (السرائر) ليست صريحة في القول الثاني وإن نسب إليه في (الرياض)(15) بل كما يحتمل اعتبار أن يقول: سمعت رجلين عدلين أنه زيد، كذلك يحتمل قبول شهادته مطلقة حين الأداء، لكنها مستندة إلى شهادة العدلين، بل لعلّ الثاني هو الأظهر، لقوله بعد تلك العبارة: «فأما الواحد والنساء فلا يشهد بتعريفه ولا تعريفهن، لأنه لا دليل على ذلك، وإذا أقام الشهادة أقامها كذلك، فإذا أشهد على امرأة وكان يعرفها بعينها جاز له أن يشهد عليها، وإن لم ير وجهها، فإن شك في حالها لم يجز له أن يشهد عليها إلا بعد أن تسفر عن وجهها، ويثبتها معرفة، فإن عرفها من يثق بديانته من العدلين جاز له الشهادة عليها وإن لم تسفر عن وجهها…»(16). فإنه ظاهر في الشهادة بلا اشتراط لذكر المعرفين في الشهادة.
هذا كلّه لو حصل المعرفان.
قال المحقق: «ولو لم يحصل ذلك وعرف هو صوت العاقد معرفة يزول معها الاشتباه، قيل: لا يقبل، لأن الأصوات تتماثل، والوجه: أنها تقبل، فإن الاحتمال يندفع باليقين، لأنّا نتكلم على تقديره. وبالجملة، فإن الأعمى تصح شهادته متحملاً ومؤدياً عن علمه وعن الإستفاضة فيما شهد به بالإستفاضة»(17).
أقول: في هذه الصورة قولان، نسب الأوّل وهو المنع في (الجواهر) إلى الشيخ في محكي الخلاف مستدلاً عليه بالإجماع والأخبار(18)، وعلله المحقق بقوله: «لأن الأصوات تتماثل». وذهب المحقق قدّس سرّه إلى الثاني ، وتبعه صاحب (الكفاية) قال: الأقرب القبول إن حصل له العلم وادعاه(19)، بل في (المسالك): هو الأشهر، قال: لأن الفرض علمه القطعي بالقائل ومعرفته إياه، ووقوع ذلك أكثري مشاهد في كثير من العميان… وللإجماع على أن للأعمى أن يطأ حليلته اعتماداً على ما يعرفه من صوتها(20)… وأما احتمال الاشتباه لتماثل الأصوات، فيندفع باليقين، فإنا نتكلّم على تقديره.
أقول: أمّا ما استدلّ به الشيخ في (الخلاف) فأمران:
أحدهما: الأخبار، لكن الشيخ لم ينقل رواية تدلّ على المنع، بل ذكر رواية محمد بن قيس الدالة على القبول بطريقين.
والآخر: الإجماع لكن في (المسالك) أن الأشهر هو القبول.
وأما التعليل الذي ذكره المحقق، فإن كان المراد منه مجرّد احتمال الاشتباه، ففيه: ما ذكره في الجواب، وإن كان المراد عدم حصول اليقين للأعمى، ففيه: إنه تشكيك في الوجدان والمشاهد من كثير من العميان، اللهم إلا أن يراد أنه لما كان الغالب في العميان هو الاشتباه، كان الوجه عدم قبول الحاكم شهادته، حتى لو حصل للأعمى العلم وادّعاه، بأن لا يكون احتمال الاشتباه علّة للحكم حتى ينتفي بانتفائه، بل يكون حكمة له يؤخذ بها حتى في موارد عدم الاشتباه يقيناً.
وأما الاستدلال للقبول بالإجماع على جواز وطئ الأعمى زوجته اعتماداً على ما يعرفه من صوتها، ففيه: إنه ليس لأحد منع غيره عن ترتيب الأثر على يقينه، وكذلك ما نحن فيه، فإن الأعمى إذا حصل له اليقين جاز له الشهادة، لكن الكلام في قبول الحاكم لشهادته، ولذا لو وقع النزاع بينه وبين زوجته، لم يكن يقين الأعمى دليلاً للحاكم على الحكم بكونها زوجة له.
وكيف كان، فإن الأقرب هو القبول، لخبر محمد بن قيس(21) المعتضد بفتوى المشهور.
(1) شرائع الإسلام 4 : 135.
(2) المختصر النافع : 281.
(3) السرائر 2 : 126 ، رياض المسائل 15 : 386.
(4) كفاية الأحكام 2 : 767.
(5) وسائل الشيعة 27 : 400/2 . كتاب الشهادات ، الباب 42.
(6) جواهر الكلام 41 : 150 151.
(7) المختصر النافع : 281.
(8) رياض المسائل 15 : 386.
(9) جواهر الكلام 41 : 151.
(10) السرائر 2 : 6.
(11) تحرير الأحكام 5 : 262 ، مجمع الفائدة والبرهان 12 : 453.
(12) كشف اللثام 10 : 342 ، جواهر الكلام 41 : 151.
(13) جواهر الكلام 41 : 152.
(14) تحرير الأحكام 5 : 262.
(15) رياض المسائل 15 : 386 ، السرائر 2 : 126.
(16) السرائر 2 : 126 127.
(17) شرائع الإسلام 4 : 135.
(18) كتاب الخلاف 6 : 266 ، المسألة 16 ، وعنه كشف اللثام 10 : 342 ، جواهر الكلام 41 : 152.
(19) كفاية الأحكام 2 : 767.
(20) مسالك الأفهام 14 : 242.
(21) وسائل الشيعة 27 : 400/1 و2 . كتاب الشهادات ، الباب 42.