والثاني: في شهادة الأجير
فاختلف الأصحاب في قبولها، فقال المحقق والعلاّمة بقبول شهادته(1)كذلك، واختاره الشهيد الثاني في (المسالك) قال: وعليه المتأخرون(2). والمحكي عن أكثر المتقدّمين كالصدوقين، والشيخ في النهاية، وأبي الصلاح وغيرهم: عدم القبول(3).
استدلّ للقبول: بالعمومات والإطلاقات، وبخصوص ما جاء في ذيل خبر أبي بصير المتقدم وهو قوله: «ويكره شهادة الأجير لصاحبه، ولا بأس بشهادته لغيره، ولا بأس بها له عند مفارقته»(4) بجعل «الكراهة» فيه الكراهة الإصطلاحية.
وأما التهمة الحاصلة بالميل إلى المشهود له، فمرتفعة بالعدالة، كما تقدّم في الضيف.
واستدلّ للمنع: بخبر أبي بصير المذكور، بحمل «الكراهة» فيه على الحرمة لا الكراهة الإصطلاحية، وبنصوص أخرى وصفت في (الرياض) و (الجواهر ) بالإستفاضة ومنها:
1 ـ سماعة: «سألته عما يردّ من الشهود. قال: المريب والخصم والشريك ودافع مغرم والأجير والعبد والتابع والمتّهم، كلّ هؤلاء تردّ شهاداتهم»(5).
2 ـ صفوان «عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن رجل أشهد أجيره على شهادة ثم فارقه، أتجوز شهادته له بعد أن يفارقه؟ قال: نعم، وكذلك العبد إذا اُعتق جازت شهادته»(6).
قلت: لقد كثر الكلام حول مفاد خبر أبي بصير، فالقائلون بالقبول حملوا «الكراهة» على الكراهة الإصطلاحية، فأشكل المانعون بأن هذا المعنى إصطلاح جديد، والمعنى المقصود من هذا اللفظ في كلام الأئمة عليهم السلام هو الحرمة. لكن لا مجال للحمل على الحرمة التكليفية في هذا الخبر ، لعدم حرمة هذه الشهادة، بل إن جميع الأخبار الواردة في كتاب الشهادات ناظرة إلى الحكم الوضعي، وهو القبول وعدم القبول.
وأشكل المانعون أيضاً: بأن الشهادة لو كانت مقبولة ينبغي وجوبها عيناً مع عدم الغير وإلا كفايةً، فما معنى الكراهة؟
وأُجيب: بأنه حيث يكون الشهادة واجبة عليه كفاية، يكره عليه المبادرة بالقيام بها، لأجل احتمال التهمة.
وفي (الرياض) عن خاله الوحيد: حمل الشهادة فيه على «الإشهاد»(7)، فيكره إشهاد الأجير.
وهو كما ترى، ومن هنا لم يرتضه صاحب الرياض(8).
وكيف كان، فالأولى ترك الإستدلال بهذا الخبر إن لم تكن الكراهة فيه كناية عن عدم القبول إذ في الأخبار الاخرى للقولين غنىً وكفاية، فيدلّ على القبول العمومات والإطلاقات، ويدلّ على المنع أخبار.
ووجه الإستدلال بخبر صفوان المزبور هو: ظهوره في المنع من جهة تقرير الإمام عليه السلام لما دلّ عليه السؤال من كون عدم القبول قبل المفارقة مفروغاً عنه، ومن جهة تشبيه الإمام عليه السلام الأجير قبل المفارقة بالعبد قبل الإنعتاق.
فالإنصاف، تماميّة دلالة هذه الصحيحة على المنع، خلافاً لصاحب (المستند)(9).
والنسبة بين هذه الصحيحة المختصة بالعادل، حيث صرح فيها بالقبول بعد المفارقة، وبين ما دلّ على القبول، هي العموم والخصوص المطلق، فتقدم عليها ويحكم بعدم القبول.
فالأقوى عدم القبول وإن كان ذلك مخالفاً لإطباق المتأخرين كما قيل، والله العالم.
وبما ذكرنا يظهر: أنه لاوجه للتوقف في المسألة كما عن (الدروس) حيث نقل فيه الخلاف فيها مقتصراً عليه من دون ترجيح(10)، وعن (الرياض) حيث قال: «المسألة عند العبد محل توقف»(11).
ثم إن صاحب الرياض قال: «إلا أن مقتضى الاصول حينئذ عدم القبول»(12)واعترضه في (الجواهر) بقوله: «وفيه: ما عرفته سابقاً من أنه مع الشك ينبغي الرجوع إلى عموم أدلة القبول، لعدم تحقق التهمة المانعة حينئذ»(13).
قلت: لكن الأقرب الأوّل، إذ التعارض يفرض بين ما دلّ على القبول من العمومات وغيرها إن كان، وبين ما دلّ على العدم، فيتساقط الجميع، ويكون المرجع الأصل.
هذا، ولا خلاف في عدم القبول إذا كان هناك تهمة بجلب نفع أو دفع ضرر، كما لو شهد لمن استأجره على قصارة الثوب أو خياطته له، من غير فرق بين بقاء الاجرة وعدمه كما في (الجواهر) وفي (المسالك) حمل خبر سماعة على هذا المحمل(14).
(1) شرائع الاسلام 4 : 130 ، ارشاد الاذهان 2 : 158 ، تحرير الاحكام 5 : 255 .
(2) مسالك الأفهام 14 : 200.
(3) المقنع : 398 ، الهداية : 286 ، عنهما : مختلف الشيعة 8 : 484 ، النهاية : 325 ، الكافي في الفقه : 436 ، المهذب 2 : 558 ، الوسيلة : 230 ، غنية النزوع 2 : 440.
(4) وسائل الشيعة 27 : 372/3 . كتاب الشهادات ، الباب 29 . وفيه : ولا بأس به له بعد مفارقته .
(5) وسائل الشيعة 27 : 378/3 . كتاب الشهادات ، الباب 32.
(6) وسائل الشيعة 27 : 372/1 . كتاب الشهادات ، الباب 29.
(7) رياض المسائل 15 : 300.
(8) رياض المسائل 15 : 300.
(9) مستند الشيعة 18 : 259.
(10) الدروس الشرعية 2 : 131 . وعنه رياض المسائل 15 : 301.
(11) رياض المسائل 15 : 301.
(12) رياض المسائل 15 : 301 .
(13) جواهر الكلام 41 : 85.
(14) مسالك الأفهام 14 : 193 ، جواهر الكلام 41 : 85.