في ثبوت الزنا بغير الأربعة رجال أيضاً
قال المحقق: «ويثبت الزنا خاصة بثلاثة رجال وأمرأتين، وبرجلين وأربع نساء، غير أن الأخير لا يثبت به الرجم ويثبت به الجلد»(1).
أقول: في هذا الفرع ثلاثة أحكام:
أحدها: ثبوت الزنا دون اللّواط والسحق بثلاثة رجال وامرأتين.
والثاني: ثبوته برجلين وأربع نساء.
والثالث: إنه يثبت بشهادة الرجلين والأربع نسوة حكم الزنا جلداً لا رجماً.
والمدرك في هذه الأحكام هو النصوص المستفيضة التي لا يعارضها الآيات الكريمة المعتبرة لشهادة أربعة رجال، لأن ثبوت الزنا بذلك لا ينفي ثبوته بغيره، وهذا بعضها:
1 ـ عبد الله بن سنان قال: «سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لا تجوز شهادة النساء في رؤية الهلال، ولا يجوز في الرجم شهادة رجلين وأربع نسوة ويجوز في ذلك ثلاثة رجال وامرأتان…»(2).
2 ـ الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «سألته عن شهاده النساء في الرجم، فقال: إذا كان ثلاثة رجال وامرأتان، وإذا كان رجلان وأربع نسوة لم تجز في الرجم»(3).
3 ـ محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا عليه السلام في حديث: «وتجوز شهادتهن في حدّ الزنا إذا كان ثلاثة رجال وامرأتان، ولا تجوز شهادة رجلين وأربع نسوة في الزنا والرجم…»(4).
4 ـ زرارة عن أبي جعفر قال في حديث «وقال علي عليه السلام: تجوز شهادة النساء في الرجم إذا كان ثلاثة رجال وامرأتان، وإذا كان أربع نسوة ورجلان فلا يجوز الرجم»(5).
5 ـ أبو الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث عن علي عليه السلام: «إذا شهد ثلاثة رجال وامرأتان جاز في الرجم، وإذا كان رجلان وأربع نسوة لم تجز»(6).
6 ـ زيد الشحام قال: «سألته عن شهادة النساء، قال فقال: لا تجوز شهادة النساء في الرجم إلا مع ثلاثة رجال وامرأتين، فإن كان رجلان وأربع نسوة فلا تجوز في الرجم…»(7).
7 ـ الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام: «إنه سئل عن رجل محصن فجر بامرأة، فشهد عليه ثلاثة رجال وامرأتان، وجب عليه الرجم، وإن شهد عليه رجلان وأربع نسوة، فلا تجوز شهادتهم ولا يرجم ولكن يضرب حدّ الزاني»(8).
وبالجمع بين هذا الخبر الذي لم يتعرّض له الشهيد الثاني، لا في المقام ولا في باب حدّ الزنا وبين خبره المتقدم، يتم الدليل على ما ذكره المحقق.
وأما ما دلّ على عدم قبول شهادة المرأة في الحدّ، فمحمول على ردّ شهادتها فيه منفردة عن الرجل، ولو سلّمنا إطلاقه فمخصص بما عرفت.
وما دلّ على عدم القبول منها في خصوص الرجم، فقد حمله الشيخ على التقيّة أو عدم اجتماع شرائط القبول فيه.
فثبت الأحكام الثلاثة بالنصوص المذكورة.
وعن جماعة: الخلاف في الحكم الثالث، فنفوا الحدّ أصلاً، قال في (المسالك ) بعد ذكر بعض الأخبار: «وهي مع كثرتها، ليس فيها تصريح بثبوت الجلد برجلين وأربع نسوة، لكن الشيخ وجماعة استندوا في ثبوته إلى رواية أبان عن عبد الرحمن عن الصادق عليه السلام قال: تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجال(9)، وحيث انتفى الرجم بالأخبار الكثيرة تثبت الجلد. (قال): وفيه نظر، لضعف الطريق عن إثبات مثل ذلك، مع ورود روايات كثيرة بأنه لا تقبل شهادتهن في حدّ، ومن ثم ذهب جماعة منهم الصدوقان وأبو الصلاح والعلامة في المختلف إلى عدم ثبوت الحدّ بذلك، عملاً بالأصل، وبأنه لو ثبت الزنا بشهادتهم لثبت الرجم، والتالي باطل للأخبار الكثيرة الدالّة على عدم سماع رجلين وأربعة نسوة في الرجم، فالمقدّم مثله. وبيان الملازمة: دلالة الإجماع على وجوب الرجم على المحصن الزاني، فإن ثبت هذا الوصف ثبت الحكم وإلا فلا. وهذا الحكم متّجه»(10).
أقول: وهو كما في (الجواهر) كالإجتهاد في مقابلة النص(11).
ونبّه المحقق قدّس سرّه بقوله «خاصة» على خلاف جماعة منهم الصّدوق وابن الجنيد(12) في الحكم الأوّل، حيث قال بتعدّي الحكم إلى اللواط والسحق. قال الشهيد الثاني: وهو ضعيف، لعدم المقتضي لإلحاقهما بالزنا، مع الأخبار بعد قبل شهادتهن في الحدّ(13).
فهما باقيان على مقتضى ما دلّ على اعتبار الأربعة رجال، ويؤيّده عموم عدم جواز شهادة النساء في الحدود الدالّ عليه عدة من النصوص، وعليه نص الشهيد في (الدروس) بقوله: «ما لا يثبت إلا بشهادة أربعة رجال وهو اللواط والسحق»(14) وفي (المستند) عن الإسكافي إلحاقهما بالزنا، قال: «وهو ضعيف(15)، وأما رواية البصري والرضوي لشذوذهما خارجان عن الحجية»(16).
فالدليل على عدم الإلحاق بعد عدم الدليل المعتبر هو بقاؤهما على مقتضى ما دلّ على اعتبار الأربعة رجال، نعم عن بعض العامة تفسير «الفاحشة» في قوله تعالى: (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ)(17) بالسحق. وأن المراد من «اللذان» في قوله تعالى: (وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً)(18) هو الرجلان اللواطان(19)، وحيث لا تصريح في هذه الآية بطريق إثبات الفاحشة، يكون طريق إثباتها هو ما ذكر في سابقتها، فيكون طريق إثبات اللواط هو الأربعة رجال.
هذا وجه الإستدلال بالآيتين. وفيه:
أوّلاً: إن التفسير المذكور ليس عن أهل البيت عليهم السلام، وقد نصّ على ذلك الفيض الكاشاني بعد حكايته(20).
وثانياً: الفاحشة هي الفعل القبيح، فإن اُريد العموم شمل جميع القبائح، وإن اُريد لحاظ مناسبة الحكم والموضوع اختص الزنا.
وثالثاً: إن الإستدلال بالآية الثانية مبني على أن يكون المراد من اللذان هو الرجلان، لكن هذا اللفظ يطلق على الرجل والمرأة أيضاً.
وعلى الجملة، ففي ما ذكرنا من الاستدلال كفاية، ولا حاجة إلى التكلّف المذكور، وهو حكم قد تسالم عليه الأصحاب، فلا مجال لدعوى السيد في (الغنية) الإجماع على قبول الثلاثة والمرأتين فيهما أيضاً(21)، وإن كان يشهد له إطلاق خبر عبد الرحمن البصري: «تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجال»(22) لكنه ـ كما في (المستند) ـ شاذ(23).
وأما جعل الزنا أعم من اللواط والسحق، فيدخلان في المستثنى من دليل عدم جواز شهادة النساء في الحدود، فضعيف، ولا أقل من الشك في شمول المفهوم، فيؤخذ بالقدر المتيقن.
فثبوت السحق واللواط بالأربعة رجال فقط.
قال المحقق: «ولا يثبت بغير ذلك»(24).
أقول: أي: لا يثبت الزنا بغير الأربعة رجال، والثلاثة والمرأتين، والرجلين مع أربعة نساء، وقد نبّه بهذا على خلاف الشيخ في (الخلاف) حيث ذهب إلى ثبوت الحدّ دون الرجم بشهادة رجل واحد وست نساء، ذكره في (المسالك ) وقال: ولعلّه استند إلى عموم رواية عبد الرحمن السابقة، وهو شاذ(25).
قلت: ولعلّ المستند قوله تعالى: (فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)(26)بتقريب: إن الامرأتين تقومان مقام الرجل، فتكون الستة قائمة مقام الثلاثة رجال، فيتم مع الرجل شهادة الأربعة رجال. لا يقال: فعلى هذا تقبل شهادة الثمانية نسوة. لأن النصوص دلّت على عدم قبول شهادتهن منفردات إلا في القتل.
فالحاصل: قيام المرأتين مقام الرجل في كلّ مورد، إلا حيث جاء النص على عدم القبول.
لكن يضعّفه: إن الآية مخصّصة بما دلّ على عدم قبول شهادة النساء في الحدود، بناءاً على إطلاقه بالنسبة إليهن منضمات إلى الرجال، خرج منه الأربع نسوة والرجلان، والثلاثة رجال والمرأتان، وبقي غيرهما تحت العام … كما أن هذا الدليل يقيد إطلاق خبر عبد الرحمن البصري، بغض النظر عن شذوذه.
(1) شرائع الإسلام 4 : 136.
(2) وسائل الشيعة 27 : 353/10 . كتاب الشهادات ، الباب 24.
(3) وسائل الشيعة 27 : 351/3 . كتاب الشهادات ، الباب 24.
(4) وسائل الشيعة 27 : 352/7 . كتاب الشهادات ، الباب 24.
(5) وسائل الشيعة 27 : 354/11 . كتاب الشهادات ، الباب 24.
(6) وسائل الشيعة 27 : 357/25 . كتاب الشهادات ، الباب 24.
(7) وسائل الشيعة 27 : 359/32 . كتاب الشهادات ، الباب 24.
(8) وسائل الشيعة 27 : 132/1 . أبواب حدّ الزنا ، الباب 30.
(9) وسائل الشيعة 27 : 356/21 . كتاب الشهادات ، الباب 24 . وفيه : عن القاسم عن عبد الرحمان . وفي طبعة المكتبة الاسلامية : عن القاسم عن أبان عن عبد الرحمان . وسائل الشيعة 18 : 262/21.
(10) مسالك الأفهام 14 : 248 249.
(11) جواهر الكلام 41 : 156.
(12) المقنع : 402 . مختلف الشيعة 8 : 470.
(13) مسالك الأفهام 14 : 249.
(14) الدروس الشرعية 2 : 136.
(15) مستند الشيعة 18 : 282.
(16) مستند الشيعة 18 : 278 279.
(17) سورة النساء 4 : 15.
(18) سورة النساء 4 : 16.
(19) التبيان في تفسير القرآن 3 : 143 144 . فقه القرآن للراوندي 2 : 368 369.
(20) تفسير الصافي 1 : 398.
(21) غنية النزوع 2 : 438.
(22) وسائل الشيعة 27 : 356/21 . كتاب الشهادات ، الباب 24.
(23) مستند الشيعة 18 : 279.
(24) شرائع الإسلام 4 : 136.
(25) كتاب الخلاف : 6/251 ، المسألة 2 ، مسالك الأفهام 14 : 249.
(26) سورة البقرة 2 : 282 .