الطرف الثاني:
ما به يصير الشاهد شاهداً
في أن الضابط العلم أو الوثوق؟
قال المحقق قدّس سرّه: «والضابط العلم لقوله تعالى (وَلاَ تَقْفُ …)(1)ولقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم…»(2).
أقول: إن «الشهادة» من «شهد» بمعنى «حضر» ولكن ليس مطلق الحضور مجوّزاً للشهادة، بل لابدّ من العلم، وسيأتي الكلام في ما يعتبر في حصول العلم. ويدلّ على اعتبار العلم الكتاب والسنة.
فمن الكتاب قوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) قالوا: «لا تقف، أي : لا تتبع» وفي (الصافي): لا تقل(3). وقوله تعالى: (إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(4) ومن السنة: ما رواه المحقق عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: وقد سئل عن الشهادة: «هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع»(5).
ويدلّ عليه أخبار أخرى، ومنها:
1 ـ علي بن غياث: «عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا تشهدنّ بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفك»(6).
2 ـ السكوني: «عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا تشهد بشهادة لا تذكرها، فإنه من شاء كتب كتاباً ونقش خاتماً»(7).
فالضابط هو العلم، وبمثل عبارة المحقق قال الشهيد: والضابط في تحمّل الشهادة العلم بالسماع أو الرؤية أو بهما(8) والعلامة في (القواعد) قال: ومناطه العلم القطعي(9)، وعليه صاحب (الجواهر)(10) وهو الأظهر.
وعن الشيخين والصدوقين وآخرين: العمل بخبر عمر بن يزيد الآتي(11)، بل في (الدروس) نسبته إلى الأكثر(12)، بل عن (المختلف) نسبته إلى المشهور بين القدماء(13)، وهذا نص الخبر بسنده: «محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن ] الحسين [ ابن علي بن النعمان، عن حماد بن عثمان، عن عمر بن يزيد قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يشهدني على شهادة، فأعرف خطي وخاتمي، ولا أذكر من الباقي قليلاً ولا كثيراً. قال فقال لي: إذا كان صاحبك ثقة ومعه رجل ثقة فاشهد له»(14).
وهذه الرواية صحيحة سنداً، وظاهرها كون المناط في الشهادة هو الوثوق ولا حاجة إلى العلم.
وقد أجاب عنها في (الرياض) بعد الإعتراف بصحة سندها بالتأمّل في شهرتها بين القدماء كما هي، قال: لدلالتها على اعتبار كون المدعي أيضاً ثقة، ولم يعتبره من الجماعة غير والد الصدوق خاصة، فالعامل بها على هذا نادر(15).
لكن فيه: أن عدم عمل المشهور بجزء من مدلول الخبر لا يوجب سقوطه عن الإعتبار، بل الأولى تقييدها بصورة حصول العلم العادي بشهادة الثقة كما في (الرياض)(16) و (الجواهر). قال في (الجواهر): على أنه لم نتحقق نسبته إلى الأكثر(17).
ولو فرض صلاحيتها للمعارضة مع الأخبار المتقدمة المعتبرة للعلم، فإنه تعارض العموم من وجه، لأن مفهوم تلك النصوص عدم اعتبار الشهادة من دون علم ولا تذكر، سواء حصل الوثوق أو لم يحصل، ومفهوم الصحيحة كفاية شهادة الثقة سواء حصل علم أو لا، فيقع التعارض في صورة الإجتماع بين المفهومين، لكن الترجيح لتلك النصوص، لكثرتها وشهرتها بل تواترها كما عن بعضهم، مضافاً إلى أن أخبار اعتبار العلم موافقة للكتاب، قال تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(18) والموافقة مع الكتاب من المرجحات المسلمة.
(1) سورة الاسراء 17 : 36 .
(2) شرائع الإسلام 4 : 132.
(3) التفسير الصافي 3 : 192 . وفيه : ولا تقف : ولا تتبع . القمي : أي لا تقل ما ليس لك به علم .
(4) سورة الزخرف 43 : 86.
(5) وسائل الشيعة 27 : 342/3 . كتاب الشهادات ، الباب 20.
(6) وسائل الشيعة 27 : 341/1 . كتاب الشهادات ، الباب 20.
(7) وسائل الشيعة 27 : 323/4 . كتاب الشهادات ، الباب 8.
(8) الدروس الشرعية 2 : 134.
(9) قواعد الأحكام 3 : 500.
(10) جواهر الكلام 41 : 121.
(11) مختلف الشيعة 8 : 517 518 ، كشف اللثام 10 : 340 ، جواهر الكلام 41 : 123.
(12) الدروس الشرعية 2 : 134.
(13) رياض المسائل 15 : 398 ، مختلف الشيعة 8 : 520.
(14) وسائل الشيعة 27 : 321/1 . كتاب الشهادات ، الباب 8.
(15) رياض المسائل 15 : 399.
(16) رياض المسائل 15 : 398.
(17) جواهر الكلام 41 : 123.
(18) سورة الإسراء 17 : 36.