في ما نسب إلى الكاشاني والكفاية
ثم إن الشيخ قدّس سرّه نسب إلى المحدّث الكاشاني قدّس سرّه الخلاف في أصل الحكم، قال: «إنه خص الحرام منه بما اشتمل على محرم من خارج مثل اللعب بآلات اللهو، ودخول الرجال، والكلام بالباطل، وإلا فهو في نفسه غير محرم، والمحكي من كلامه في الوافي أنه بعد حكاية الأخبار التي يأتي بعضها قال: الذي يظهر من مجموع الأخبار الواردة اختصاص حرمة الغناء وما يتعلّق به من الأجر، والتعليم، والاستماع، والبيع، والشراء، كلّها بما كان على النحو المعهود المتعارف في زمن الخلفاء، من دخول الرجال عليهنّ وتكلمهنّ بالباطل، ولعبهنّ بالملاهي، من العيدان والقصب وغيرهما، دون ما سوى ذلك من أنواعه، كما يشعر به قوله: ليست بالتي يدخل عليها الرجال(1)، إلى أن قال:
وعلى هذا، فلا بأس بالتغني بالأشعار المتضمّنة لذكر الجنة والنار والتشويق إلى دار القرار، ووصف نعم الملك الجبار، وذكر العبادات والرغبات في الخيرات والزهد في الفانيات ونحو ذلك، كما اُشير إليه في حديث الفقيه بقوله: «ذكرتك الجنة»(2)، وذلك: لأن هذا كلّه ذكر الله، وربما تقشعرّ منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله.
وبالجملة، فلا يخفى على أهل الحجى بعد سماع هذه الأخبار تمييز حق الغناء عن باطله، وأن أكثر ما يتغنى به الصوفية في محافلهم من قبيل الباطل(3).
أقول: ظاهر العبارة لا يساعد ما نسب الشيخ إليه، لأنه يقول: «الذي يظهر من مجموع الأخبار الواردة اختصاص حرمة الغناء وما يتعلّق به…» وهذا ظاهر في القول بحرمة الغناء، إلا أنه يرى عدم حرمة ما كان منه في القرآن والمواعظ ونحوها، فهو غير منكر لأصل الحكم، بل هو من القائلين بالحرمة في الجملة.
قال الشيخ: ونسب القول المذكور إلى صاحب (الكفاية) أيضاً. أقول: والموجود فيها بعد ذكر الأخبار المتخالفة جوازاً ومنعاً في القرآن وغيره إن الجمع بين هذه الأخبار يمكن بوجهين:
أحدهما: تخصيص تلك الأخبار الواردة المانعة بما عدا القرآن، وحمل ما يدلّ على ذم التغني بالقرآن على قرائة يكون على سبيل اللهو، كما يصنعه الفساق في غنائهم، ويؤيده رواية عبد الله بن سنان: أقرأوا القرآن بألحان العرب، وإيّاكم ولحون أهل الفسق والكبائر، وسيجئ من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء(4).
وثانيهما: أن يقال وحاصل ما قال حمل الأخبار المانعة على الفرد الشائع في ذلك الزمان، قال: والشائع في ذلك الزمان الغناء على سبيل اللهو من الجواري وغيرهن في مجالس الفجور والخمور والعمل بالملاهي والتكلّم بالباطل وإسماعهنّ الرجال، فحمل المفرد المعرف يعنى لفظ الغناء على تلك الأفراد الشائعة في ذلك الزمان غير بعيد.
ثم قال بعد كلام له: إن في عدّة من أخبار المنع عن الغناء إشعاراً بكونه لهواً باطلا، وصدق ذلك في القرآن والدعوات والأذكار المقروة بالأصوات الطيبة المذكرة المهيجة للأشواق إلى العالم الأعلى، محلّ تأمّل(5).
أقول: حاصل كلامه في الوجه الأول: تخصيص أخبار المنع بما عدا القرآن. ومن الواضح: أن التخصيص معناه حفظ دلالتها على المنع في غير مورد التخصيص، فهو قائل بالحرمة في الجملة.
وحاصل كلامه في الوجه الثاني: الجواب عن أخبار المنع بوجوه:
أحدها: منع صدق «الغناء» في القرآن ونحوه.
والثاني: إنصراف أخبار المنع عن القرآن ونحوه.
والثالث: التخصيص.
وفي (المكاسب) وجه رابع وظاهر عبارته أنه لـ (الكفاية) ولكنّه ليس فيها، ولعلّ نسخ الكفاية مختلفة حيث قال: «على أن التعارض واقع بين أخبار الغناء والأخبار الكثيرة المتواترة الدالّة على فضل قراءة القرآن والأدعية والأذكار، مع عمومها لغةً وكثرتها، وموافقتها للأصل، والنسبة بين الموضوعين عموم من وجه، فإذاً، لا ريب في تحريم الغناء على سبيل اللهو والاقتران بالملاهي ونحوهما، ثم إن ثبت إجماع في غيره وإلا بقي حكمه على الإباحة. وطريق الاحتياط واضح»(6).
وحاصله: تعارض أدلة الموضوعين في مادّة الاجتماع وتساقطهما، فإن كان إجماع على حرمة الغناء بالقرآن فهو، وإلا فالأصل الإباحة.
أقول: أما الوجه الأوّل، فواضح البطلان، لعدم الفرق في الصدق بين القرآن وغيره لغة وعرفاً.
وأما الوجه الثاني، فكذلك، لما ورد في الأخبار المجوزة نفسها من النهي عن التغني بالقرآن، فكيف يقال بانصراف أدلّة التحريم عن القرآن؟
وأما الرابع فكذلك، لأنه متى اجتمعت الحرمة مع غير الوجوب، فلا إشكال في تقدّم دليل الحرمة، ولا معنى للتعارض بينهما والتساقط، فلا تصل النوبة إلى الإجماع، على أنه قائم في جميع موارد اجتماع الحرمة مع عدم الوجوب .
وبقي الثالث، وهو يتوقف على تماميّة ما دلّ على الجواز في القرآن، سنداً ودلالة، وهي أخبار:
الأول: ما عن الحميري ـ بسند لم يستبعد في (الكفاية) إلحاقه بالصحاح(7) ـ عن علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: «سألته عن الغناء في الفطر والأضحى والفرح. قال: لا بأس ما لم يعص به».
والثاني: في كتاب علي بن جعفر عن أخيه قال: «سألته عن الغناء، هل يصلح في الفطر والأضحى والفرح؟ قال: لا بأس ما لم يزمر به»(8).
والاستدلال بهما يتمّ على أن يكون المراد مالم يعص باقتران القراءة بشي من المحرمات الخارجية ومالم يستعمل فيه المزمار، ولكن الأظهر أن المراد مالم يعص أو لم يزمّر في نفس هذه القراءة، وعلى الجملة: مالم يكن الصوت مشتملاً على الترجيع والطرب، وإلا فإن تحسين الصوت في الفرح وأيام السرور كالعيدين مطلوب مرغوب فيه، ويكون التعبير عن ذلك بالغناء على مبنى الشيخ تعبيراً مجازياً(9).
والثالث: عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن كسب المغنيات، فقال: «التي يدخل عليها الرجال حرام، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس، وهو قول الله عزّوجلّ (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)( )»(10).
والرابع: عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «أجر المغنية التي تزفّ العرائس ليس به بأس وليست بالتي يدخل عليها الرجال»(11).
وأجاب الشيخ بقوله: «وأما رواية أبي بصير مع ضعفها سنداً بعلي بن أبي حمزة البطائني فلا يدلّ إلاّ على كون غناء المغنية التي يدخل عليها الرجال داخلاً في لهو الحديث في الآية، وعدم دخول غناء التي تدعى إلى الأعراس فيها، وهذا لا يدلّ على دخول مالا يكن منهما في القسم المباح مع كونه من لهو الحديث قطعاً… نعم، الإنصاف أنه لا يخلو من إشعار بكون المحرم هو الذي يدخل فيه الرجال على المغنيات، لكن المنصف لا يرفع اليد عن الإطلاقات لأجل الإشعار، خصوصاً مع معارضته بما هو كالصريح في حرمة غناء المغنية ولو لخصوص مولاها»( ).
وأجاب في (الحدائق) عن هذه الأخبار: بأنها مع تسليم دلالتها لا تقاوم أخبار التحريم، لأنها أكثر عدداً وأقوى سنداً وأوضح دلالة، وأنها موافقة للكتاب ومخالفة للعامة(12).
وعلى الجملة، فهذا القول ضعيف جدّاً، وقد ظهر أن القائل به ـ أعني الكاشاني والسبزواري ـ لا يقول بعدم حرمة الغناء مطلقاً كما نسب إليهما.
(1) وسائل الشيعة 17 : 121/3 . أبواب ما يكتسب به ، الباب 15.
(2) وسائل الشيعة 17 : 122/2 . أبواب ما يكتسب به ، الباب 16.
(3) كتاب المكاسب 1 : 111 112 . نقلا عن الوافي 17 : 218 223 .
(4) وسائل الشيعة 6 : 120/1 . أبواب قراءة القرآن ، الباب 24.
(5) كفاية الأحكام 1 : 428 434 . ونقل عنه في المكاسب 1 : 112 113.
(6) كتاب المكاسب 1 : 113 ، كفاية الأحكام 1 : 434.
(7) نسبه إليه النراقي في المستند 18 : 139 والشيخ في المكاسب 1 : 114 . والخبر في وسائل الشيعة 17 : 122/5 . أبواب ما يكتسب به ، الباب 15.
(8) وسائل الشيعة 17 : 122/5 ، ذيل الحديث وفيه : ما لم يؤمر به . مسائل علي بن جعفر 156 : 219.
(9) أقول: ومع التنزل عن ذلك، فلابدّ بعد تسليم السند من الحمل على بعض المحامل، قال في الوسائل ( 17/122 ) : « هذا مخصوص بزف العرائس وبالفطر والأضحى إذا اتفق معه العرس، ويمكن حمله على التقية، ويحتمل غير ذلك » ولا سيما بالنظر إلى النصوص الواردة في أبواب صلاة العيد، ففي الباب 37: الذي عنوانه: باب استحباب كثرة ذكر الله والعمل الصالح يوم العيد وعدم جواز الاشتغال باللعب والضحك: « نظر الحسين بن علي عليه السلام إلى ناس في يوم فطر يلعبون ويضحكون، فقال لأصحابه والتفت إليهم: إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى رضوانه، فسبق فيه قوم ففازوا وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب كل العجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يثاب فيه المحسنون ويخيب فيه المقصرون، وأيم الله، لو كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه ومسي بإساءته » ( وسائل الشيعة 7 : 480/3 ). ومن تلك الأبواب: « باب استحباب استشعار الحزن في العيدين لاغتصاب آل محمد حقهم » ( وسائل الشيعة 7 : 475 الباب 31 ).
(10) سورة لقمان 31 : 6.
(11) وسائل الشيعة 17 : 120/1 . أبواب ما يكتسب به ، الباب 15.
(12) وسائل الشيعة 17 : 121/3 . أبواب ما يكتسب به ، الباب 15.
(13) كتاب المكاسب 1 : 115.
(14) الحدائق الناظرة في أحكام العترة الطاهرة 18 : 112 . بتفاوت.