دليل القول بعدم الوجوب
وقال ابن ادريس: لا دليل على وجوب التحمل، واستدلّ بالآية المذكورة (وَلاَ يَأْبَ …) على وجوب الأداء، لظهور المشتق «الشهداء» في الأداء، إذ لا يسمّى الشاهد شاهداً إلا بعد تحمل الشهادة، وأجاب عمّا ذكره القائلون بالوجوب بأنه مجاز لا يصار إليه، بعد كون الأخبار آحاداً. وهذا نص كلامه:
«لا يجوز أن يمتنع الإنسان من الشهادة إذا دعي إليها ليشهد إذا كان من أهلها، إلا أن يكون حضوره مضرّاً بشيء من أمر الدين أو بأحد من المسلمين، وأما الأداء فإنه في الجملة أيضاً من الفرائض لقوله تعالى: (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)(1) وقال: (وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ)(2). وقد يستشهد بعض أصحابنا بهذه الآية الأخيرة على وجوب التحمل وعلى وجوب الأداء، والذي يقوى في نفسي أنه لا يجب التحمل، وللإنسان أن يمتنع من الشهادة إذا دعي إليها ليتحملها، إذ لا دليل على وجوب ذلك عليه، وما ورد في ذلك فهو أخبار آحاد. فأما الاستشهاد بالآية والاستدلال بها على وجوب التحمل، فهو ضعيف جداً، لأنه تعالى سماهم شهداء ونهاهم عن الإباء إذا دعوا إليها، وإنما يسمى شاهداً بعد تحملها، فالآية بالأداء أشبه، وإلى هذا القول يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطه(3).
فإن قيل: سمّاهم شهداء لما يؤولون إليه من الشهادة كما يقولون لمن يريد الحج الحاجي وإن لم يحج، وكما قال تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ)(4) أي إنك ستموت . قلنا: هذا مجاز، والكلام في الحقيقة غير الكلام في المجاز، فلا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة ولا دليل…»(5).
وأجاب في (الجواهر) بقوله: كأنه اجتهاد في مقابلة النص(6)، وإن كان ربما يشهد له ما عن (تفسير العسكري) عن أمير المؤمنين عليه السلام في قول الله عزوجل (وَلاَ يَأْبَ …)(7) إلى آخرها: من كان في عنقه شهادة فلا يأب إذا دعي لإقامتها، وليقمها ولينصح فيها، ولا تأخذه فيها لومة لائم، وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر(8).
لكن قال فيه أيضاً: وفي خبر آخر: إنها نزلت فيما إذا دعي لسماع الشهادة وأبى، واُنزلت فيمن امتنع عن أداء الشهادة إذا كانت عنده (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا)(9) إلى آخرها(10).
أقول: وكيف كان، فإن الأقوى هو القول المشهور، والمعتمد في الاستدلال هو النصوص.
(1) سورة البقرة 2 : 283.
(2) سورة البقرة 2 : 282.
(3) المبسوط في فقه الإمامية 8 : 186.
(4) سورة الزمر 39 : 30.
(5) السرائر 2 : 125 126.
(6) أقول: حاصل كلام ابن ادريس عدم تمامية الاستدلال بالآية للقول المشهور إلا بمعونة الأخبار، فتكون هي العمدة في المقام، لكن الاستدلال بها مبني على القول بحجية خبر الواحد، فعلى القول بالعدم كما هو مذهبه والمفروض كون أخبار المقام أحاداً لا يبقى دليل على وجوب التحمل، فيجري الأصل.
فالصحيح في الجواب عما ذكره: إنكار كون أخبار المقام آحاداً، ومن هنا قال في الرياض: والطعن فيه بكونه من الآحاد غير جيد حتى على أصله ( رياض المسائل 15 : 383 ).
وقد أشار بذلك إلى ما ذكره العلامة في المختلف ( مختلف الشيعة 8 : 511 ) بقوله: « ونسبة ذلك إلى أنه من أخبار الآحاد مع دلالة القرآن عليه واستفاضة الأخبار به وفتوى متقدمي علمائنا به جهل منه وقلة تأمل » فإن تم ذلك فهو وإلا كان البحث مع ابن ادريس على المبنى. فلاحظ.
(7) سورة البقرة 4 : 282.
(8) وسائل الشيعة 27 : 314/7 و8 . كتاب الشهادات ، الباب 2.
(9) وسائل الشيعة 27 : 314/7 و8 . كتاب الشهادات ، الباب 2.
(10) جواهر الكلام 41 : 181.