حكم ما لو شهدا بالعتق فحكم ثم رجعا
قال المحقق: «ولو شهدا بالعتق فحكم ثم رجعا، ضمنا القيمة تعمداً أو خطأ، لأنهما أتلفاه بشهادتهما»(1).
أقول: إنما يضمنان قيمة العبد، لأن العتق بمنزلة الإتلاف، وقد كانا السبب في ذلك. وإذا رجعا لم يرجع رقّاً، وأما القيمة، فهي قيمة العبد في وقت الحكم، لأنه وقت الإتلاف.
وظاهر كلماتهم عدم الخلاف، في عدم رجوعه رقاً بالرجوع، قال في (كشف اللثام) و (الجواهر): خلافاً لبعض العامة، فردّه في الرق. قال الثاني: ولا وجه له، لأصالة صحة الحكم(2).
قلت: والأولى الاستدلال بأدلّة نفوذ الحكم.
ثم إنه لا يفرق في الإتلاف بين العامد والخاطئ، لأنهما أتلفا المال على المالك على كلّ حال بشهادتهما، والمال يضمن بالتفويت.
قال في (المسالك) و (الجواهر): ولا فرق بين أن يكون المشهود بعتقه قناً أو مدبراً أو مكاتباً أو أم ولد أو معلق العتق بصفة، خلافاً لبعض العامة في اُم الولد حيث قال: لا غرم(3).
قلت: ولا وجه لقوله، لأن شهادته قد تسبب عتقها في حال الموت ولدها في حياتها.
ولو كانت الشهادة على تدبير عبد ثم رجعا بعد الحكم، لم يغرم الشاهدان في الحال، لأن الملك لم يزل ما دام المولى حيّاً، فإذا مات ولم يرجع عن تدبيره، فوجهان: من جواز الرجوع له متى شاء إلا أن يشهدا بالتدبير منذوراً، بأن يكون قد قال مثلاً: لله علي إن بريء ولدي من مرضه أن يكون عبدي فلان حرّاً بعد وفاتي، فإن النذر بهذه الصّورة يمنعه من الرجوع. ومن أنهما السبب في العتق، وأنه لا يجب على المولى الرجوع وإن جاز له.
اختار الشهيد الثاني الغرامة(4)، وكاشف اللثام العدم(5)، قال في (الجواهر): ولعلّه الأقوى.
قلت: والوجه في ذلك هو: إن التدبير يقتضى الحريّة بعد الموت، والمانع هو رجوع المولى، فإذا لم يرجع أثّر المقتضي أثره، ونسب الإتلاف عرفاً إلى المولى لا الشاهدين، نظير ما لو أبلغ الرجل سارقاً إلى دار للسرقة، فدخلها السارق ومكّنه صاحب الدار من السرقة مع إمكان دفعه له، فإنه هو المقصّر عند العرف لا الرجل المزبور.
ولو مات المولى ولم يرجع، وقد رجع الشاهدان عن شهادتهما بعد موته، ففي (المسالك) و (الجواهر): أُغرما للورثة(6).
قلت: فإن قيل: ان هذا المال يخرج عن ملك المولى بمجرّد موته، لأن المفروض هو التدبير وعدم الرجوع منه، وإذ ليس من ملكه، فلا تشمله ضابطة كلّ ما ترك الميت من مال أو حق فهو لورثته، فهو ليس للورثة حتى يغرما لهم.
قلت: إن ثبوت الغرم هو من جهة أنه لو كان هذا المال باقياً في ملك المولى لانتقل إلى ورثته بموته، لكن السبب في تلفه هو الشاهدان، فهما المتلفان لما كان ينتقل إليهم، فعليهما الغرم لهم.
هذا فيما لو شهدا على التدبير ورجعا.
وأما لو شهدا بكتابة عبده وفي الكتابة يخرج العبد عن سلطنة المولى، وليس للمولى الرجوع عن الكتابة، بخلاف التدبير، وليس الكتابة بيعاً، بأن يبيع المولى العبد من نفسه، إذ لا عرفية لذلك، بل هي معاملة مستقلّة ثم رجعا، فإن عجز وردّ في الرق فلا شيء عليهما، لأنهما لم يفوّتا شيئاً، كما في (القواعد) و (كشف اللثام) و (الجواهر)(7).
وهل مجرد العجز موجب للرق أو هو ورجوع المولى؟ وجهان، والأظهر الأوّل.
قال في (الجواهر): نعم في (التحرير): يحتمل أن يقال: عليهما ضمان أجرة مدّة الحيلولة إن ثبتت، وجزم به في (المسالك)(8).
قلت: أي: لا يضمنان غيرها شيئاً، وشهادتهما وإن أوجبت عيباً في الملك ونقصت من قيمته، وكان عليهما بذل تفاوت القيمة أيضاً، لكن رجوعه إلى الرقية بالعجز رافع للعيب، وذلك مسقط للضمان، فليس عليهما إلا بدل الحيلولة. هذا كلامهم.
وفيه إشكال، ولا سيما وأنه ينافي ما سيذكر عنهم من الفتوى بعدم استعادة الغرامة في الفرع الآتي. هذا إن عجز.
وإن أدّى وعتق، ضمن الشاهدان جميع قيمة العبد وفاقاً للقواعد والمسالك والجواهر(9)، لأنهما فوّتاه على المولى بشهادتهما، وما قبضه السيد من كسب عبده لا يحسب عليه لأنه ماله.
واحتمل جماعة: أن لا يضمنا إلا ما زاد من قيمته على النجوم إن زادت، بناءاً على أن المكاتبة بيع للمملوك من نفسه بالنجوم.
ولكن قد أشرنا إلى ضعف هذا المبنى.
ولو أراد تغريمهما قبل انكشاف الحال أي حال العجز أو القدرة على أداء النجوم غرما ما بين قيمته سليماً أو مكاتباً، من جهة أن المكاتبة تحدث فيه عيباً، ولا يستعاد من المولى ما أخذه منهما لو استرق، لزوال العيب بالرجوع، وهو فعل المولى لا فعلهما.
والحاصل: إن العيب مستند إلى شهادتهما فيغرمان، ورفعه غير مستند إليهما حتى تستعاد الغرامة، فلا تستعاد وفاقاً للقواعد والجواهر(10).
هذا لو كانت الكتابة مشروطة، بمعنى عدم تحرر شيء منه حتى يدع القيمة كلّها فيتحرر كلّه، في مقابل الكتابة المطلقة، بمعنى انعتاقه بأزاء ما يؤديه من النجوم.
فلو شهدا بالكتابة المطلقة جاء فيها ما ذكر في الشهادة بالمشروطة: من الضمان لما ينعتق منه بأزاء ما يؤديه من النجوم، ومن احتمال ضمان ما زاد من قيمة الشقص على ما يؤديه منها وقد عرفت ضعف مبناه ومن احتمال التحرير لضمان أجرة الحيلولة إن كانت، ومن أن للمولى تغريم الشاهدين قبل انكشاف الحال ما بين قيمته سليماً ومكاتباً.
ولو شهدا أنه أعتقه على مال هو دون القيمة، فحكم الحاكم، اعتق العبد وملك المولى المال لأنه يؤدي من كسبه، وضمن الشاهدان القيمة.
ولو شهدا أنه وقفه على مسجد أو جهة عامة، فكالعتق، ولا يرد الوقف بالرجوع.
والأمة إن استولدت لا تباع إلا أن يموت ولدها، فلو شهدا باستيلاد أمته ثم رجعا في حياة المولى، غرما ما نقصته الشهادة من قيمتها، ولا تستعاد الغرامة من المولى إن مات الولد، لأنه ارتفاع عيب بفعله تعالى.
أما لو قتلا ولدها، فهل لهما الرجوع في الغرامة؟ في (كشف اللثام) و (الجواهر) احتمال(11). أي: لارتفاع العيب بفعلهما حينئذ، ولكنه مشكل. والله العالم.
(1) شرائع الإسلام 4 : 143.
(2) كشف اللثام 10 : 387 ، جواهر الكلام 41 : 229.
(3) مسالك الأفهام 14 : 302 ، جواهر الكلام 41 : 229.
(4) مسالك الأفهام 14 : 302.
(5) كشف اللثام 10 : 388.
(6) مسالك الأفهام 14 : 302 ، جواهر الكلام 41 : 229.
(7) قواعد الأحكام 3 : 513 ، كشف اللثام 10 : 388 ، جواهر الكلام 41 : 229.
(8) تحرير الأحكام 5 : 289 ، مسالك الأفهام 14 : 303 ، جواهر الكلام 41 : 229.
(9) قواعد الأحكام 3 : 513 ، مسالك الأفهام 14 : 303 ، جواهر الكلام 41 : 229.
(10) قواعد الأحكام 3 : 513 ، جواهر الكلام 41 : 229.
(11) كشف اللثام 10 : 388 ، جواهر الكلام 41 : 230.