في حكم ما لا تتم الصلاة فيه
ز ـ هل يجوز لبس ما لا تتمّ فيه الصلاة من الحرير منفرداً، كالتكة والقلنسوة ونحوهما، والصلاة فيه؟ فيه خلاف، ومن جوّز اللبس في الصلاة فقد جوّزه في غيرها، فنقول: قد نسب القول بالجواز إلى الأشهر في (الجواهر)(1) كما في (الوافي)(2). وعن جماعة كثيرة، كالمفيد والصدوق والشيخ في النهاية والعلامة في بعض كتبه وغيرهم: المنع(3). وعن جماعة منهم المحقق قدّس سرّه في كتبه الثلاثة التردد(4)، لكن قال المحقق: «والأظهر الكراهية»(5). وهذا هو المختار(6).
استدلّ للمنع: بمكاتبة محمد بن عبد الجبار قال: «كتبت إلى أبي محمد أسأله هل يصلّى في قلنسوة حرير محض أو قلنسوه ديباج؟ فكتب: لا تحلّ الصلاة في حرير محض»(7). وبمكاتبته الاخرى: «كتبت إلى أبي محمد عليه السلام أسأله هل يصلّى في قلنسوة حرير محض أو قلنسوة ديباج؟ فكتب: لا تحلّ الصلاة في حرير محض»(8)(9).
وللجواز: بما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «كلّ ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه، مثل التكة الإبريسم والقلنسوة والخف والزنار يكون في السراويل ويصلى فيه»(10).
أما المكاتبة، فلا كلام في صحتها سنداً، وأما خبر الحلبي فقد أجاب المانعون عنه بضعف سنده بـ «أحمد بن هلال العبرتائي» فإنه ضعيف.
واُجيب: بأنه مع التسليم ينجبر الضعف بعمل الأصحاب بالخبر(11)، إلا أنه لا سبيل إلى تقديمه على المكاتبة، لأنها أصح بلا كلام.
كما أنه لا سبيل إلى تقديم خبر الحلبي على المكاتبة بالحكومة، وإن كان مقدّماً على إطلاقات عدم جواز الصلاة في الحرير بالحكومة لأنه ناظر إلى تلك الإطلاقات، ولا بالتقييد لأنه من قبيل تخصيص المورد وهو مستهجن، إلا أن يقال بأن الإمام عليه السلام قد أعرض عن جواب السؤال، بل ذكر الحكم بصورة العموم، لكنه خلاف الظاهر.
وحمل الفقيه الهمداني المكاتبة على الغالب(12).
أي: أن الغالب في القلنسوة أن تكون من حرير.
وهو كما ترى، لأن السؤال قد وقع عن القلنسوة، وإعطاء الجواب عن الفرد الغالب منه خلاف المتعارف، بل يمكن أن يكون من الإغراء بالجهل، إذ يمكن أن يكون المحتاج إليه حكم القلنسوة غير الحرير.
كما أن حمل المكاتبة على التقية غير تام، لأن العامّة يقولون بجواز الصلاة في ذلك(13) فقوله عليه السلام «لا تحلّ» الظاهر في الحرمة الوضعيّة ينافي التقية.
بقي حمل المكاتبة على الكراهة، بقرينة خبر الحلبي.
وفيه: إن لسان النهي عام، لأنه قال: «لا تحلّ الصلاة في حرير محض»، فهو من الأدلة الدالّة على عدم جواز الحرير مطلقاً، فيتوقف حمله على الكراهة على القول بعموم المجاز فيه، بأن استعملت الهيئة في الجامع بين الحرمة والكراهة، فتكون الحرمة لما تتم فيه الصلاة، والكراهة لما لاتتم فيه، لكن الحمل على عموم المجاز فيه مشكل.
إلا أن يقال بأن معنى المكاتبة: لا تحلّ الصلاة في قلنسوة حرير محض، فلا يكون الجواب عامّاً، بل هو نهي عن خصوص القلنسوة، فيمكن حمله على الكراهة بقرينة خبر الحلبي، وهذا هو الأولى، نظير ما إذا قال السائل: هل يصلّى خلف شارب الخمر، فورد الجواب: لا تصلّ خلف الفاسق، فيحمل على أن المراد لا تصلّ خلف شارب الخمر لأنه فاسق.
وصاحب (الجواهر) وبعضهم قدّموا خبر الحلبي لكونه أشهر(14)، وعليه، فلماذا القول بالجواز على كراهة؟ إلا أن يقال: بأن «لا بأس» فيه إشعار بوجود حزازة فيها، والله العالم.
ولو وصل الأمر إلى الأصل، فلا ريب في أنه البراءة، لأنه من دوران الأمر بين الأقل والأكثر.
ثم إن المراد ما لاتتم فيه الصلاة منفرداً، أي لكلّ رجل بحسب حاله، لا مطلقاً، ولا الوسط من الرجال خلافاً للجواهر.
ح ـ لا بأس بالكف بالحرير، وترقيع الثوب به، لعدم صدق اللبس معه، ويجوز الصلاة فيه أيضاً، لانصراف أدلة النهي عن الصلاة فيه عن مثله. وإن كان الأحوط أن لا يزيد على أربع أصابع.
ط ـ ولا بأس أيضاً في حمل الحرير، واستصحابه، في الصلاة وغيرها، لعدم صدق اللبس، وانصراف الأدلّة عنه، وإن كان مما تتم فيه الصلاة.
(1) جواهر الكلام 8 : 123.
(2) الوافي 7 : 425 ذيل ح6252.
(3) الجامع للشرائع : 67 ، مختلف الشيعة 2 : 80 ، منتهى المطلب 4 : 225 ، وعن فخر المحققين في المهذب البارع 1 : 325 ، حبل المتين : 183 ، كشف اللثام 3 : 215 ، الحدائق الناضرة 7 : 97 ، مدارك الأحكام 3 : 179 ، مجمع الفائدة والبرهان 2 : 83 84 ، البيان : 57 58 ، غنية النزوع 1 : 66 ، من لا يحضره الفقيه 1 : 264 / ذيل ح 814 ، ولم اعثر في النهاية على المنع ، بل قال فيه بالكراهة . راجع النهاية : 98 . وقال في المبسوط 1 : 83 ، بالجواز ثم قال : والتنزّه عنه أفضل.
(4) شرائع الإسلام 1 : 69 ، المعتبر 2 : 89 ، المختصر النافع : 24 ، مسالك الأفهام 1 : 164 ، رياض المسائل 2 : 327 ، تحرير الأحكام 1 : 195/620 ، غاية المرام 1 : 133 ، نهاية الاحكام 1 : 376 ، المقتصر : 71.
(5) شرائع الإسلام 1 : 69.
(6) قال السيد في العروة ( العروة الوثقى 2 : 343 ، المسألة 25 ): أن لا يكون حريراً محضاً للرجال، سواء كان ساتراً للعورة أو كان الساتر غيره، وسواء كان مما تتم فيه الصلاة أولا، على الأقوى، كالتكة والقلنسوة ونحوهما، بل يحرم لبسه في غير حال الصلاة أيضاً إلا مع الضرورة . فقال سيدنا الاستاذ في تعليقته: لا قوة فيه والأحوط اجتنابه ، ومن هنا فقد وافق السيد صاحب الوسيلة في قوله: « أن لا يكون حريراً محضاً للرجال على الأحوط ».
(7) وسائل الشيعة 4 : 368/2 . أبواب لباس المصلّي ، الباب 11.
(8) وسائل الشيعة 4 : 376/1 . أبواب لباس المصلّي ، الباب 14.
(9) أقول: هل هي مكاتبة اخرى أو هي مكاتبة واحدة؟ صريح الجواهر هو الأوّل، لكن الثاني غير بعيد، بل هو الظاهر عند المحقق النائيني، ففي كتاب الصلاة للآملي ( كتاب الصلاة 1 : 277 ) عنه قدس سرهما: الظاهر أنهما رواية واحدة، إلا أنه لمكان تقطيعها يذكر كل فقرة منها في الموضع المناسب لها، والمنقول عن بعض السادة من أهل إصفهان وجود أصل نسخة المكاتبة عنده، الذي كان الجواب فيها بخط العسكري عليه السلام، وأنه ذكر فيها نحو من خمسة عشر إلى عشرين سؤالاً.
قلت: قد ذكرت المكاتبة في وسائل الشيعة مرةً في الباب الحادي عشر، ومرتين في الباب الرابع عشر من أبواب لباس المصلي، وقد أضاف في الموضع الأخير ذكر السؤال عما لاتتم الصلاة فيه من غير المأكول مع الجواب بأنه إذا كان ذكياً فلا بأس.
(10) وسائل الشيعة 4 : 376/2 . أبواب لباس المصلّي ، الباب 14.
(11) أقول: الكلام في « أحمد بن هلال » طويل، فمن الأصحاب من لا يعتمد على خبره لكونه فاسد المذهب ضعيفاً، ومنهم من يعتمد عليه، لأن فساد المذهب لا يضر بعد وثاقة الراوي. قلت: إن كان منشأ تضعيف من ضعفه هو الفساد في العقيدة وأنه في نفسه ثقة أمكن الاعتماد على خبره بناءاً على أن فساد العقيدة لا يضر بالوثاقة كما عليه بعض مشايخنا. وراجع المستمسك في شرح العروة 5 / 365، معجم رجال الحديث 3 / 152.
(12) مصباح الفقيه ( كتاب الصلاة ) 143 ، ( حجري ) وفيه : لعلّه لغلبة حصول الامتزاج به.
(13) انظر كتاب الخلاف : 1/504 ، المسألة 245.
(14) راجع جواهر الكلام 8 : 129 ، مستند الشيعة 4 : 347 ، مصباح الفقيه ( كتاب الصلاة ) : 141 ، ( حجري ) .