حكم الشهادة استناداً إلى الإستفاضة
إنما الكلام في حكم الشهادة استناداً إلى الإستفاضة، والتحقيق: إنه يدور أمر الشهادة استناداً إلى الإستفاضة مدار «العلم» المأخوذ في الضابطة، من حيث الطريقية أو الموضوعية. فعلى الموضوعية، يشترط تحقق العلم، والأثر يترتب عليه دون غيره إلا بدليل خاص، وقد عرفت عدم دلالة الصحيحة إلا على حجية الإستفاضة، من غير تعرّض لباب القضاء والشهادة، فإن إثبات الحجية لموضوع أمر وجواز الشهادة أو القضاء استناداً إليه أمر آخر، ومن هنا يظهر أنه لا تعارض بين الصحيحة وحديث: «إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان»(1) حتى يجمع بينهما بالعموم والخصوص، خلافاً لقضاء (الجواهر)، ووفاقاً له هنا. وعلى الجملة، فإن ما يفيد حجية الإستفاضة يثبت حكماً ذاتياً لها، ولا علاقة له بحكم طارئ على الإستفاضة، وهو جواز أو عدم جواز الشهادة استناداً إليها. وعلى الطريقية كما هو الظاهر المستفاد من كلمات جماعة من المحققين كما تقدم نظير العلم المأخوذ في «كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر»(2).
فإن كلّ ما ثبتت طريقيته يقوم مقام العلم في جواز الإستناد إليه في الشهادة، ومن ذلك الإستفاضة، فيجوز الشهادة استناداً إليها، ويكون المراد من الحديث «إنما أقضي…» هو القضاء بين الناس بحسب الحجج الظاهرية، فيقضي بالبينة واليمين من حيث كونهما حجّتين، فلا تعارض كذلك بين الحديث والصحيحة، بل تتقدّم الصحيحة عليه بالحكومة أو الورود.
فهذا هو التحقيق والملاك في المقام ونظائره، وبما ذكرنا يظهر لك ما في بعض الكلمات.
وكيف كان، فقد قام الدليل الخاص وهو الاتفاق كما في (الجواهر) على ثبوت النسب بالشهادة المستندة إلى الإستفاضة(3). وفي (المسالك) التشكيك في ثبوته بالنسبة إلى الاُم والجدّات، لإمكان رؤية الولادة(4).
وأشكل عليه في (الجواهر): بأن ذلك وإن كان ممكناً، إلا أنه لا يطّلع غالباً إلا النساء بالأقاويل منهن، ولذا اكتفى بشهادتهن، فهو في الحقيقة مما لا يمكن رؤيته في العادة، على أنه بالنسبة إلى الجدّات العاليات غير ممكن، لأن شهادة الفرع في الثالثة غير مسموعة، والتواتر بحيث يرجع إلى محسوس في الطبقة الاولى متعذر أو متعسر، ومن هنا أطلق الأصحاب النسب من غير فرق بين الأب والاُم(5).
وفي (المسالك) أيضاً: ويعتبر مع انتساب الشخص ونسبة الناس أن لا يعارضهم ما يورث التهمة والريبة، فلو كان المنسوب إليه حيّاً فأنكر لم تجز الشهادة…
وهل يقدح في ذلك طعن من يطعن في النسب؟ وجهان، أظهرهما: مراعاة الشرط، وهو الظن المتاخم أو العلم(6).
قلت: وقيام السيرة على ما ذكره غير بعيد، ولعلّ هذا منه تقييد للقبول، وإلا فهو رحمه الله يقول بثبوت النسب بالشهادة المستندة إلى الشياع والإستفاضة… لكن معقد الإجماع المدّعى هو القبول مطلقاً.
قال المحقق: «وقال الشيخ: لو شهد عدلان فصاعداً صار السامع متحمّلاً وشاهد أصل لا شاهداً على شهادتهما، لأن ثمرة الإستفاضة الظن وهو حاصل بهما. وهو ضعيف، لأن الظن يحصل بالواحد»(7).
أقول: إن كان الشيخ قد استفاد من دليل حجية الإستفاضة كون ملاك حجيتها هو إفادة الظن، فكلّ ظن حجة، توجّه عليه نقض المحقق، لأنه ليس مطلق الظن بحجة، بل الظن الحاصل من خصوص الإستفاضة… لكن استفادة الشيخ ذلك من دليل حجية الإستفاضة غير معلومة، ولذا قيّد بالعدلين، ولا يبعد أن يكون الشيخ قد جعل (العلم) في ضابط الشهادة بما هو طريق لا بما هو موضوع، وحينئذ، تقبل الشهادة المستندة إلى الحجة وإن لم تكن بعلم، وشهادة العدلين حجة.
(1) وسائل الشيعة 27 : 232/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 2.
(2) وسائل الشيعة 3 : 467/4 . أبواب النجاسات ، الباب 37 ، وفيه : كلّ شيء نظيف …
(3) جواهر الكلام 41 : 133.
(4) مسالك الأفهام 14 : 228.
(5) جواهر الكلام 41 : 133.
(6) مسالك الأفهام 14 : 229.
(7) شرائع الإسلام 4 : 133.