الثانية: في حكم السؤال تكليفاً.
وقد اختلفت كلماتهم في المستفاد من النصوص وكلمات الأصحاب من حيث الحكم التكليفي للسؤال.
ففي (الرياض): إن في تعليل الامام عليه السلام فيما رواه محمد بن مسلموتعليل المحقق الحكم بقوله: «ولأن ذلك يؤذن بمهانة النفس فلا يؤمن على المال» ونحوه كلام غيره، إيماءً إلى تهمته، وعدم حرمة السؤال، وإلا لعلّل بحرمته الموجبة لفسق فاعله بمجرده أو بالإصرار عليه واستمراره(1).
وفي (الجواهر) جعله المستفاد من النصوص بل والفتاوى(2).
لكن قال في (الرياض): «وفيه نظر، فإن عدم التعليل بالحرمة لا يستلزم الإباحة، فقد يكون وجهه لزوم حمل أفعال المسلمين وأقوالهم على الصحة ، بناء على عدم اتصاف كلّ سؤال بالحرمة، بل الذي لا تدعو إليه حاجة ولا ضرورة محرم خاصة، وحينئذ فكيف ينسب السائل إلى فعل محرم بمجرّد سؤاله الذي هو من الحرام أعم؟»(3).
وأجاب عنه في (الجواهر) بعد أن أشار إليه بقوله: اللهم إلا أن يحمل… فقال : «ولكن لا يخفى عليك أن هذا بعد فرض معلومية حرمة السؤال ولو بالكف مع فرض عدم التدليس به، كما لو صرح بغنائه عن ذلك، وهو وإن كان مغروساً في الذهن، والنصوص مستفيضة بالنهي عن سؤال الناس، لكن كثيراً منها محمول على بعض مراتب الأولياء ط وآخر محمول على المدلّس … وأما حرمة السؤال من حيث كونه سؤالاً ولو بالكف، فلا دليل مطمئن به على حرمته وإن كان ذلك مغروساً في الذهن، فتأمل…»(4).
وحاصل كلامه قدّس سرّه هو: إنه كما أن إطلاق نصوص المسألة يقتضي عدم قبول شهادة السائل وإن كان سؤاله عن حاجة، فإن إطلاقها يقتضي عدم الحرمة وإن كان سؤاله عن غير حاجة، وما ذكره صاحب (الرياض) يبتني على فرض ثبوت حرمة السؤال من غير حاجة كما صرح هو به، مع أنه لا دليل مطمئن به على حرمته، والنصوص المستفيضة المشار إليها محمولة على بعض الوجوه.
قلت: أما نصوص المسألة، فالظاهر عدم دلالتها على حرمة السؤال مطلقاً، وما ذكره في (الرياض) من أن وجه عدم التعليل بالحرمة لزوم حمل أفعال المسلمين وأقوالهم على الصحة(5)، بعيد، لأن السؤال هو عن قبول شهادة السائل وعدم قبولها، فإن كان سؤاله عن خصوص غير المحتاج كان المتجه أن يجيب الإمام عليه السلام بعدم القبول، ويعلّل ذلك بكونه فاسقاً إن كان السؤال من غير حاجة ولا ضرورة محرّماً، وإن كان عن خصوص المحتاج، كان الجواب القبول لعدم الحرمة، وإن كان السؤال عن السائل مطلقاً كان المتجه التفصيل لا التعليل المذكور، فترك التفصيل والإطلاق في الجواب والتعليل بما ذكره، كلّ ذلك يقتضي عدم القبول حتى في صورة الحاجة، ويبقى الكلام في الحكم التكليفي، ولا دلالة في هذه النصوص على الحرمة مطلقاً.
وأما النصوص الاخرى التي أشار إليها في (الجواهر) ووصفها بالإستفاضة(6)، فسيأتي ذكرها وبيان المستفاد منها.
هذا، وفي (المستند): «دلّ التعليل على أن صاحب ذلك الوصف ليس مأموناً عن شهادة الزور والكذب ما دام كذلك، فلا تعرف عدالته، لأن من لا يظن عدم ارتكابه الكذب وشهادة الزور كيف يعرف بالعدالة، فلا يكون ذلك عادلاً، ويكون هذا الوصف مانعاً عن الحكم بالعدالة بمعرفاته(7).
وفيه: إنه لا يعتبر في قبول الشهادة وترتيب الأثر عليها وجود الظن بعدم الكذب، نعم، الحكمة في قبول شهادة العادل هو الظن النوعي بعدم كذبه، ولكن ليس من شرط القبول العلم بعدم كذبه في هذه الشهادة، بل إن الفقهاء يفتون بقبول شهادة البينة حتى مع الظن بالخلاف.
قال: فلا تعارض بين الروايتين وعمومات قبول شهادة العدل، نعم، لو عرف أوّلاً بالعدالة ثم صار سائلاً بالكف، يلزم استصحاب عدالته وقبول شهادته(8)…
أقول: هو جواب سؤال تقديره: إن النسبة بين نصوص المسألة وعمومات قبول شهادة العدل عموم من وجه، فيتعارضان ويتساقطان في مورد الإجتماع. فأجاب بأن السائل بالكف ليس بعادل، ولا أقل من الشك في عدالته، فلا تعمّه عمومات القبول، نعم، لو كان عادلاً ثم صار سائلاً استصحب عدالته.
لكن قد عرفت عدم دلالة النصوص على عدم العدالة، وأنه لا يشترط في قبول الشهادة عدم الظن بالخلاف فضلاً عن عدم احتماله، ولو كان ذلك شرطاً لم يقبل شهادة كلّ من له صلة مّا من قرابة أو صداقة وغيرهما بالمشهود له، إلا موارد خاصة تعبدنا فيها بعدم القبول، ومنها السائل بالكف، ولا ملازمة بين عدم القبول وعدم العدالة، كما هو واضح.
(1) رياض المسائل 15 : 302.
(2) جواهر الكلام 41 : 82.
(3) رياض المسائل 15 : 302.
(4) جواهر الكلام 41 : 82.
(5) رياض المسائل 15 : 302.
(6) جواهر الكلام 41 : 82.
(7) مستند الشيعة 18 : 261.
(8) مستند الشيعة 18 : 261.