القول بالكراهة
وقال صاحب (الجواهر) بعدم خلوّ القول بعدم وجوب التحمل وأنه مستحب بل تركه مكروه، من قوة، وقد اشتمل كلامه على وجوه لذلك:
الأوّل: إن الآية على طولها مشتملة على الآداب، بل ملاحظة ما قبلها وما بعدها وأنها على مساق واحد خصوصاً ما كان منها مثل اللفظ المذكور، نحو قوله تعالى (وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ)(1) فضلاً عن قوله تعالى (وَلاَ تَسْأَمُوْاْ) إلى آخرهايورث الظن القوي بكون ذلك منها أيضاً(2).
قلت: مرجع هذا الوجه إلى وحدة السياق، وهي وإن كانت تورث الظن القوي في بعض الموارد، ولكنها ليست كذلك مطلقاً، ففي مثل: «اغتسل للجمعة والجنابة» لا يمكن القول بوحدة حكم الموضوعين اعتماداً على وحدة السياق.
والثاني: إشعار لفظ «لا ينبغي» ونحوه(3) في النصوص المزبورة، بل اتفاق معظمها على هذا اللفظ ونحوه، ظاهر في ذلك أيضاً.
قلت: أما أوّلاً: فإن لفظ ينبغي قد ورد في الأخبار بمعنى الوجوب والحرمة كما في طائفة من أخبار الخلل والشكوك.
وأما ثانياً: لو سلّمنا ظهور ينبغي في الإستحباب، فإن من أهم النصوص في المسألة صحيحة هشام بن سالم وليس فيها اللفظ المزبور فيكون الدليل، بل يكون حينئذ قرينة على عدم إرادة الإستحباب من النصوص الاخرى المشتملة على لفظ «ينبغي».
والثالث: ما ذكره بقوله: بل شدة التوعّد على كتمانها وزيادة المبالغة في تركه على التحمل، فيه إشعار آخر أيضاً.
قلت: أي إشعار في ذلك؟ غاية ما في الباب أن يكون ترك الأداء من الكبائر ولا يكون ترك التحمل منها.
والرابع: قوله: بل قد يظهر من الصدوق المفروغية من عدم الوجوب، حيث أنه بعد أن روى في المحكي من فقيهه: «قيل للصادق عليه السلام: إن شريكاً يرد شهادتنا. فقال: لا تذلّوا أنفسكم» قال: ليس يريد بذلك النهي عن إقامتها، لأن إقامة الشهادة واجبة، إنما يعني بها تحمّلها، يقول: لا تتحملوا الشهادة فتذلّوا أنفسكم بإقامتها عند من يردّها(4). بل هو فتوى المصنف في (النافع) قال: ويكره أن يشهد لمخالف إذا خشي أنه لو استدعاه إلى الحاكم يردّ شهادته(5)(6).
قلت: أما أولاً، فإن الخبر المزبور قاصر السند، بل إنّه ضعيف كما في (الرياض)(7).
وأما ثانياً: فإنه ظاهر في الأداء، وقد حمله الصدوق والحلّي على التحمل دون الأداء. قال في (الرياض): وظاهرهما عدم الاستشكال في جواز ترك التحمل، وهو مشكل جدّاً(8).
وأما ثالثاً: يحتمل أن يريد الصدوق والحلي من ترك التحمل إخفاء نفسه عن المخالف لئلاّ يشهده، لا تركه عند الإشهاد. قاله في (الرياض)(9).
وأما رابعاً: لعلّ كلام الامام عليه السلام ونهيه عن الشهادة هذه هو من جهة عدم أهليّة شريك للقضاء، فكأنه قال: إنه حيث يكون الجالس للقضاء غير صالح له، فلا يجب التحمل لأجل الشهادة عنده، ففي ذلك مذلّة للشيعة.
وأما خامساً: سلّمنا، لكنّ عدم وجوب التحمّل مخصوص بهذه الحالة، بأن يكون هذا الخبر بعد غضّ النظر عمّا في سنده مخصّصاً لما دلّ على وجوبه مطلقاً.
ومما ذكرنا في الوجوه التي ذكرها صاحب (الجواهر) لعدم الوجوب يظهر ما في قوله: «فالإنصاف عدم خلوّ القول بعدم وجوبه وأنه مستحب بل تركه مكروه من قوة…».
ثم قال رحمه الله نعم، قد يحتمل أن يراد في الآية بناء على إرادة من تلبّس بالشهادة منها الإشارة إلى مضمون النصوص المستفيضة، وهو أن من دعي إلى تحمّل الشهادة فتحمّلها وجب عليه إقامتها، ومن تحمّلها بلا استدعاء لم يجب عليه إقامتها إلا في صورة خاصة، وهي إذا علم الظلم، وحينئذ فيكون المعنى: ولا يأب الشهداء عن أداء الشهادة إذا دعوا إلى تحملها وإلا فلا يجب ، فيتوافق حينئذ مضمون النصوص المزبورة مع الآية.
قال: إلا أنه خلاف ما تقدم في النصوص الواردة في تفسيرها(10).
(1) سورة البقرة 2 : 282.
(2) جواهر الكلام 41 : 181.
(3) لعل المراد من نحوه لفظ « لم يسع لك » في خبر محمد بن الفضيل في نسخته هو كما في الجواهر 41/180 لكنه في الوسائل « لم ينبغ لك ».
(4) من لا يحضره الفقيه 3 : 75/3366 ، وعنه وسائل الشيعة 27 : 412/1 . كتاب الشهادات ، الباب 53.
(5) المختصر النافع : 282.
(6) جواهر الكلام 41 : 181 ـ 182.
(7) رياض المسائل 15 : 403.
(8) رياض المسائل 15 : 403.
(9) رياض المسائل 15 : 403.
(10) جواهر الكلام 41 : 182.