الطرف الخامس:
اللّواحق
وهي قسمان:
القسم الأول
(في اشتراط توارد الشاهدين على المعنى الواحد)
وتترتب عليه مسائل:
المسألة الاولى
(في أن توارد الشاهدين على المعنى الواحد شرط)
قال المحقق قدّس سرّه: «توارد الشاهدين على الشيء الواحد شرط في القبول»(1).
أقول: لا يخفى أن المراد توقف تحقق الشهادة على تواردهما على الشيء الواحد، لا أنها تتحقق وتواردهما عليه شرط لقبولها.
كما يتوقف أيضاً على موافقة الشهادة لدعوى المدعي، وهذا هو المراد من قول الشهيد الثاني: لابدّ في قبول الشهادة من موافقتها للدعوى. فإذا وافقت الشهادة الدعوى وتوافق الشاهدان ولو من حيث المعنى، حكم(2)، كما قال المحقق: «فإن اتفقا معنى حكم بهما وان اختلفا لفظاً، إذ لا فرق بين أن يقولا غصب وبين أن يقول أحدهما غصب والآخر انتزع»(3). إذ العبرة بالمعنى لا باللفظ، وقد حصل بالفعل الواحد شاهدان، ولذا لا يحكم بهما لو اختلفا معنى كما قال المحقق:
«ولا يحكم لو اختلفا معنى، مثل أن يشهد أحدهما بالبيع والآخر بالإقرار بالبيع، لأنهما شيئان مختلفان»(4).
إذ البيع غير الإقرار به، ولم يقم بكلّ منهما إلا شاهد واحد.
وكذا لو شهد أحدهما أنه غصبه من زيد، وشهد الآخر أنه ملك زيد، لاختلاف المعنى، لأعمية الغصب من كونه ملكاً له.
نعم، يجوز للشاهدين أداء الشهادة على وجه تكون مثمرة عند الحاكم ويحكم على طبقها، كأن يشهد بالزوجية للمعقود عليها متعة من دون إظهار لهذه الجهة حتى يحكم الحاكم العامي بالزوجية، لكن يشترط في ذلك أن لا يبطل حقاً أو يحق باطلاً، فتصح في الفرض المذكور الشهادة إن كانا حيّين، وأما مع موت الرجل فإنه إذا شهد بالزوجية حكم لها بالإرث، مع أن المتزوجة متعة لا إرث لها.
والدليل على ذلك هو النصوص:
1 ـ داود بن الحصين قال: «سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إذا أُشهدت على شهادة فأردت أن تقيمها فغيّرها كيف شئت ورتّبها وصحّحها بما استطعت، حتى يصح الشيء لصاحب الحق بعد أن لا تكون تشهد إلا بحقه، ولا تزيد في نفس الحق ما ليس بحق، فإنما الشاهد يبطل الحق ويحق الحق، وبالشاهد يوجب الحق، وبالشاهد يعطى، وأن للشاهد في إقامة الشهادة بتصحيحها بكلّ ما يجد إليه السبيل، من زيادة الألفاظ والمعاني والتفسير في الشهادة ما به يثبت الحق ويصححه ولا يؤخذ به زيادة على الحق، مثل أجر الصائم القائم المجاهد بسيفه في سبيل الله»(5).
2 ـ داود بن الحصين أيضاً قال: «سمعت من سأل أبا عبد الله عليه السلام وأنا حاضر عن الرجل يكون عنده الشهادة، وهؤلاء القضاة لا يقبلون الشهادات إلا على تصحيح ما يرون فيه من مذهبهم، وإني إذا أقمت الشهادة احتجت إلى أن أُغيّرها بخلاف ما أشهدت عليه وأزيد في الألفاظ مالم أُشهد عليه، وإلا لم يصح في قضائهم لصاحب الحق ما أشهدت عليه، أفيحلّ لي ذلك؟ فقال: إي والله، ولك أفضل الأجر والثواب، فصححها بكلّ ما قدرت عليه مما يرون التصحيح به في قضائهم»(6).
3 ـ عثمان بن عيسى عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «قلت له: تكون للرجل من إخواني عندي الشهادة ليس كلّها تجيزها القضاة عندنا. قال: إذا علمت أنها حق فصحّحها بكلّ وجه حتى يصح له حقه»(7).
أقول: النصوص واردة في خصوص مورد كون القاضي من العامة، فهل يختص الجواز به أو تلغى هذه الخصوصية؟ لا يبعد إلغاء الخصوصية، إذ لا فرق في إحقاق الحق بين أن يكون الحاكم من الخاصة أو العامة، وإلا لضاع الحق، ومن المعلوم أن الشارع لا يرضى بذلك.
فالحاصل، إنه يشترط توافق الشاهدين معنى، سواء توافقا لفظاً أو لا، فلو اختلفا معنى لم يحكم. قال المحقق:
«نعم لو حلف مع أحدهما» أي مع الذي توافق شهادته دعواه «ثبت»(8) ما يثبت بالشاهد واليمين.
قال في (الجواهر): تكاذبا أم لا، وإن نسب الإجتزاء باليمين في صورة التكاذب في (الدروس) إلى القيل(9) مشعراً بتمريضه، لكنه في غير محلّه، لأن التكاذب المقتضي للتعارض الذي يفزع فيه للترجيح وغيره إنما يكون بين البينتين الكاملتين، لا بين الشاهدين كما هو واضح(10).
أقول: لكن الظاهر ما ذكره في (الدروس)، لأن الطريقية حينئذ تسقط والكاشفية تزول، وليس لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم «إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان»(11) إطلاق ليشمل هكذا شهادة، ودليل قبول شهادة الواحد مع يمين المدعي منصرف عن شهادة الواحد التي تكذبها شهادة الآخر.
لكن مقتضى اعتبار موافقة الشاهد لدعوى المدعي، إلغاء الشهادة المخالفة لها من أوّل الأمر، فإذا انضم اليمين إلى الموافقة ثبت ما يثبت بالشاهد واليمين وهو الحق المالي… وعلى هذا الأساس، لا نوافق المحقق وصاحب (الجواهر) وغيرهما، في قولهم بتحقق التعارض في كثير من الفروع الآتية، كما سترى.
(1) شرائع الإسلام 4 : 140.
(2) مسالك الأفهام 14 : 288.
(3) شرائع الإسلام 4 : 141.
(4) شرائع الإسلام 4 : 141.
(5) وسائل الشيعة 27 : 316/1 . كتاب الشهادات ، الباب 4.
(6) وسائل الشيعة 27 : 316/2 . كتاب الشهادات ، الباب 4.
(7) وسائل الشيعة 27 : 317/3 . كتاب الشهادات ، الباب 4.
(8) شرائع الإسلام 4 : 141.
(9) الدروس الشرعية 2 : 135.
(10) جواهر الكلام 41 : 212.
(11) وسائل الشيعة 27 : 232/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 2.