الطرف الرابع:
الشهادة على الشهادة
لاكلام ولا خلاف في قبول الشهادة على الشهادة في الجملة، بل الإجماع عليه في جملة من الكتب، بل في (الجواهر): لعلّ المحكي منه على ذلك متواتر(1)، بل في (المستند) دعوى الضرورة(2).
ويدلّ على القبول عدّة من النصوص التي ينجبر بما ذكر ما فيها من ضعف، ومنها:
1 ـ محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: «في الشهادة على شهادة الرجل وهو بالحضرة في البلد. قال: نعم، ولو كان خلف سارية يجوز ذلك، إذا كان لايمكنه أن يقيمها هو لعلّة تمنعه عن أن يحضره ويقيمها، فلا بأس بإقامة الشهادة على شهادته»(3).
2 ـ طلحة بن زيد عن الصادق عن أبيه عن علي عليهم السلام: «إنه كان لا يجيز شهادة رجل على رجل إلا شهادة رجلين على شهادة رجل»(4).
3 ـ غياث بن إبراهيم عن الصادق عن أبيه عليهم السلام: «إن علياً كان لا يجيز شهادة رجل على شهادة رجل إلا شهادة رجلين على شهادة رجل»(5).
ويدلّ على قبول هذه الشهادة عمومات قبول الشهادة كتاباً وسنة، لأنها شهادة لغة وعرفاً(6).
وكيف كان، فإن أصل الحكم مفروغ عنه، وإنما الكلام والبحث في جهات:
1 ـ في محلّ قبول الشهادة على الشهادة
قال المحقق: «وهي مقبولة في حقوق الناس، عقوبة كانت كالقصاص أو غير عقوبة كالطلاق والنسب والعتق، أو مالاً كالقراض والقرض وعقود المعاوضات، أو مالا يطلع عليه الرجال غالباً كعيوب النساء والولادة والاستهلال»(7).
أقول: الدليل على القبول في كلّ ما ذكر هو: الإجماع وإطلاق النصوص والإعتبار. وأما قوله في «حق الناس» فسيأتي الكلام عليه قريباً.
قال: «ولا تقبل في الحدود، سواء كانت لله محضاً كحدّ الزنا واللواط والسحق ، أو مشتركة كحدّ السرقة والقذف على خلاف فيهما»(8).
أقول: أما عدم القبول في الحدود فللخبرين:
1 ـ طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عن أبيه عن علي عليهم السلام: «إنه كان لا يجيز شهادة على شهادة في حد»(9).
2 ـ غياث بن إبراهيم عن الصادق عن أبيه قال: قال علي عليه السلام: «لا تجوز شهادة على شهادة في حدّ»(10).
وهل المستثنى خصوص الحدود التي هي لله محضة كحدّ الزنا، أو الأعم منها ومن المشتركة بينه وبين الآدمي كحد السرقة؟ قولان: المشهور كما في (الجواهر) وغيره هو الثاني، لعموم الخبرين المذكورين، وعليه المحقق وتبعه صاحب الجواهر(11). والشيخ في (المبسوط) وجماعة على الأول، تغليباً لحق الناس، واختاره الشهيد الثاني في (المسالك)، وقال: «لعدم دليل صالح للتخصيص، بعد ضعف الخبرين المزبورين»(12).
قلت: ما الدليل على تخصيص قبول الشهادة على الشهادة بـ «حق الناس» كما في عبارة المحقق، حتى «يكون حق الناس» مرجحاً للقول بالقبول في الحدود المشتركة؟
إن الأدلّة العامّة تدل على القبول مطلقاً، والنصوص الخاصة بعد الجمع بين المطلق والمقيد منها تدل على القبول كذلك إلا في «الحدود»، وليس في شيء منها عنوان «حق الناس» ونحوه، وحينئذ لا مرجح لهذه الجهة في هذا القسم من الحدود، بل الملاك صدق عنوان «الحد»، وهو إذ يصدق على المشترك يكون المشترك كالمحض من المستثنى، فلا تقبل الشهادة فيه.
وأما ما في (المسالك) من عدم صلاحية الخبرين لتخصيص النصوص الدالة على القبول مطلقاً(13)، فالجواب عنه ما ذكر في (الجواهر) من انجبار الضعف بعمل المشهور(14).
ومما ذكرنا من أن الملاك للاستثناء هو صدق عنوان «الحد» وأنه لا أثر لعنوان «حق الناس» في أخبار المسألة، يظهر أن الأقرب قبول الشهادة على الشهادة فيما كان حقاً لله غير الحد، كالزكاة والهلال ونحوهما، ولا مجال حينئذ للرجوع إلى الأصل.
وأما كلمات الأصحاب في هذه المسألة فمختلفة جدّاً، ففي الوقت الذي يدّعي كاشف اللثام قطع الأصحاب في عدم الجريان في حقوق الله مطلقاً(15)، وعن العلامة في (التذكرة): لا يثبت الهلال بالشهادة على الشهادة عند علمائنا(16)، يقول السبزواري في (الكفاية): محلّ الشهادة على الشهادة ما عدا الحدود ولا أعلم خلافاً في ذلك، ولا فرق بين الأموال والأنكحة والعقود والإيقاعات والفسوخ وغيرها، ولا فرق أيضاً بين أن يكون حق الآدميين أم حق الله تعالى كالزكاة وأوقاف المساجد والجهات العامة والأهلة وغيرها …(17).
وفي (الروضة) بشرح قول الشهيد: «محلّها حقوق الناس كافة» قال: «بل ضابطه كلّ ما لم يكن عقوبة لله تعالى مختصة به إجماعاً أو مشتركة على الخلاف»(18).
وقال في (المسالك): «واعلم أن إطلاق المصنف كون محلّها حقوق الآدميين، قد يوهم خروج ما كان حقاً لله تعالى وليس حقاً لدمي وإن لم يكن حدّاً، وهذا ليس بمراد، بل الضابط ما ذكرناه من أن محلّها ما عدا الحدود أو ما عدا حدود الله تعالى، كما تقتضيه الأدلة والفتاوى»(19).
وعلى الجملة، فإن الشهادة على الشهادة لا تقبل في الحدود المحضة والمشتركة، للخبرين، وكذا في التعزيرات، لاحتمال شمول «الحد» في الخبرين للتعزير، فإنه كاف لعدم ثبوت التعزير فيما يوجبه، لاشتراكه مع الحدّ في البناء على التخفيف، فإن كان لموضوع الحدّ المشهود به بهذه الشهادة أحكام شرعية كنشر الحرمة بأم المفعول به وأُخته وبنته، وحرمة بنت العمة والخالة بالزنا بهما، وكثبوت المهر للمزني بها المكرهة، ترتب الحكم، كما هو صريح جماعة، إذ لا منافاة بين انتفاء الحدّ بالمانع الشرعي فيبقى غير الحدّ من الأحكام على مقتضى عموم الأدلة، وكون الجميع معلول علّة واحدة لا يقتضي انتفاء الأحكام كذلك، إذ يجوز الإنفكاك بين المعلولات والعلل الشرعية، ولذا يثبت بها في السرقة دون الحد.
(1) جواهر الكلام 41 : 189.
(2) مستند الشيعة 18 : 384.
(3) وسائل الشيعة 27 : 402/1 . كتاب الشهادات ، الباب 44.
(4) وسائل الشيعة 27 : 403/2 . كتاب الشهادات ، الباب 44.
(5) وسائل الشيعة 27 : 403/4 . كتاب الشهادات ، الباب 44.
(6) وأما إشكال المستند ( مستند الشيعة 18 : 386 ) في العمومات بقوله: « وأما الإستلال بعمومات قبول الشهادة كما وقع عن جمع من المتأخرين فغير جيد، لأنه إنما يفيد لو كان المراد إثبات نفس ما شهد به الأصل، وأما إثبات ما شهد هو به فلا، إذ لا ملازمة بين ثبوت شهادة الأصل وثبوت ما شهد به، كما في صورة إمكان الأصل، وفي الحدود، وفي الفرعية الثالثة ».
ففيه: إن تلك الأدلة لا تشمل شهادة الفرع بعنوان أنه فرع، لكنها شاملة لها بما هي شهادة أصل بالنسبة إلى الشهادة لا المشهود به.
(7) شرائع الإسلام 4 : 138.
(8) شرائع الإسلام 4 : 138.
(9) وسائل الشيعة 27 : 404/1 . كتاب الشهادات ، الباب 45.
(10) وسائل الشيعة 27 : 404/2 . كتاب الشهادات ، الباب 45.
(11) جواهر الكلام 41 : 191.
(12) المبسوط في فقه الإماميّة 8 : 231 ، الوسيلة : 233 ، مسالك الأفهام 14 : 270 . وعنهم رياض المسائل 15 : 405.
(13) مسالك الأفهام 14 : 270.
(14) جواهر الكلام 41 : 191.
(15) كشف اللثام 10 : 359.
(16) تذكرة الفقهاء 6 : 135.
(17) كفاية الأحكام 2 : 778.
(18) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 3 : 149.
(19) مسالك الأفهام 14 : 271.