المسألة السابعة
(حكم ما لو شهدا بالطلاق ثم رجعا)
قال المحقق قدّس سرّه: «إذا شهدا بالطلاق ثم رجعا، فإن كان بعد الدخول لم يضمنا، وإن كان قبل الدخول ضمنا نصف المهر المسمى، لأنهما لا يضمنان إلا ما دفعه المشهود عليه بسبب الشهادة»(1).
أقول: في الشهادة بالطلاق ثم الرجوع عنها، ذكر المحقق رحمه الله صورتين ، احداهما: أن تكون الشهادة بعد الدخول، والثانية أن تكون قبله.
والمقصود بالبحث في هذه المسألة هو الضمان، وأما حكم الحاكم فلا ينتقض برجوع الشاهدين، لأن قولهما في الرجوع محتمل، فلا يردّ القضاء المبرم بقول محتمل.
وثبوت الضمان وعدمه في هذه المسألة مبني على أن البضع هل يضمن بالتفويت، كما لو فوّت الشخص منافع أجير لغيره بحبس ونحوه، أم لا يضمن، كما لو فوّت منافع الحرّ بحبسه، فإنه لا يضمن له شيئاً؟ قال المشهور بالثاني، وعلى هذا، فلو قتلها الزوج أو قتلت هي نفسها لم يضمن بضعها، وكذا لو غصب أمة وماتت في يد الغاصب، يضمن بذلك قيمة الأمة وقيمة منافعها وإن لم يستوفهادون بضعها مع عدم استيفائه.
وقيل: بالأوّل، لأن البضع متقوّم بالمال، ومن ثم، لو استوفاه مستوف ضمن بقيمته، وهي مهر المثل.
فعلى المشهور يأتي التفصيل الذي ذكره المحقق قدّس سرّه، لأنه إن كانت الشهادة بعد الدخول من الزوج لم يضمن الشاهدان شيئاً، لاستقرار المهر بالدخول، قال في (الجواهر): خصوصاً إذا كان الطلاق رجعياً وقد ترك الرجوع باختياره، للأصل، ولأنهما لم يفوّتا عليه إلا منفعة البضع، وهي لا تضمن بالتفويت(2).
وإن كانت قبل الدخول ضمنا للزوج نصف المهر المسمى لها.
وعلّله في (المسالك) بقوله: «لأنهما ألزماه به وقد كان بمعرض السقوط بالردّة والفسخ من قبلها»(3).
ولكنه تعليل غير واضح، لأن كونه في معرض السقوط لا يوجب عدم الضمان، وإلا فإن كلّ مال يتلفه الإنسان من غيره هو في معرض السقوط عن المالية والخروج عن الملكية، فيلزم أن لا يثبت ضمان مطلقاً.
وكيف كان، ففي (الجواهر): لا خلاف أجده في شيء من ذلك إلا ما يحكى عن الشيخ في (النهاية)، قال: «إن شهد رجلان على رجل بطلاق امرأته فاعتدت وتزوجت ودخل بها ثم رجعا، وجب عليهما الحدّ، وضمنا المهر للزوج الثاني، وترجع المرأة إلى الأول بعد الإستبراء بعدّة من الثاني»(4)(5).
قال في (المسالك): واستند الشيخ في ذلك إلى موثقة إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي عبد الله عليه السلام: «في شاهدين شهدا على امرأة بأن زوجها طلّقها، فتزوّجت، ثم جاء زوجها فأنكر الطلاق. قال: يضربان الحدّ ويضمنان الصداق للزوج، ثم تعتدّ، ثم ترجع إلى زوجها الأول»(6)(7).
واحتمل في (الجواهر) استناده إلى خبر محمد بن مسلم عن الباقر عليه السلام: «في رجلين شهدا على رجل غائب عن امرأته أنه طلّقها، فاعتدّت المرأة وتزوّجت، ثم إن الزوج الغائب قدم فزعم أنه لم يطلّقها، وأكذب نفسه أحد الشاهدين. فقال: لا سبيل للأخير عليها، ويؤخذ الصداق من الذي شهد ورجع، فيردّ على الأخير، ويفرّق بينهما، وتعتدّ من الأخير، وما يقربها الأول حتى تنقضي عدّتها»(8)(9).
ثم أجاب في (الجواهر) عن موثق إبراهيم بن عبد الحميد بوجهين: أحدهما: إنه خال عن رجوع الشاهدين أو أحدهما، وحينئذ يشكل ضربهما الحدّ. والثاني: إنه يشكل نقض الحكم بمجرد إنكار الزوج. ثم (قال): فهو حينئذ شاذ غير موافق لما سمعته من الشيخ رحمه الله ولا من غيره(10).
قلت: الظاهر إن السؤال عن قضية شخصية لا عن حكم كلّي، وليس في الخبر ذكر من سؤال الإمام عليه السلام عن الرجوع، وهل كانا متعمّدين في شهادتهما أو عن خطأ؟ لكن حكمه عليه السلام بالحدّ والقضية شخصيّة دليل المفروغية بينه عليه السلام وبين الراوي عن كونهما متعمدين، وإلا لما حكم بضربهما الحدّ، ولعلّه حدّ القيادة، أو أن المراد هو التعزير. وحينئذ، لا مانع من نقض الحكم، لتبين اختلال ميزان الحكم، فلا وجه لطرح الخبر بما ذكره صاحب (الجواهر)(11).
ثم إنه رحمه الله حمل الخبر على تزويجها بالشهادة من غير حكم، قال: وحمله على ما ذكره الشيخ ليس بأولى من حمله على تزويجها بشهادتهما من دون حكم حاكم، ثم لما جاء الزوج رجعا عن الشهادة، واعترفا بأنهما شهدا زوراً، فلا يكون به دلالة حينئذ على ما ذكره(12).
أقول: وهذا الحمل صحيح، لعدم التعرض في الخبر للحكم، وأما الحدّ فوجهه ما احتملناه.
وعبارة الشيخ أيضاً خالية عن الحكم، ولذا جعل العلامة في (المختلف) ما ذكر بالنسبة إلى الخبر محملاً لقول الشيخ أيضاً(13). لكن في (الجواهر): «فيه ما فيه». وكأنه إشارة إلى قول الشهيد الثاني: وليس بجيّد، فإن الشيخ استند إلى الرواية وعمل بظاهرها، فلا تأويل في كلامه(14).
هذا كلّه بالنسبة إلى موثقة إبراهيم بن عبد الحميد.
وأما الجواب عن صحيحة محمد بن مسلم، فهو أنها قضية في واقعة كذلك، ولم يرد فيها الحكم بالحدّ، وهذا كاشف عن علمه عليه السلام بخطأ الشاهدين في الشهادة، فهي محمولة على هذا المحمل.
هذا، والغائب يحكم عليه، ولكن الغائب على حجته، ومعنى ذلك أن حكم الحاكم محدود، وينتهي أمده بحضور الغائب وإقامته الحجة.
هذا، والذي يسهل الخطب ندرة العامل بالخبرين، وإعراض المشهور عنهما، وقد تقرّر عندنا أن إعراض المشهور موهن، ولا سيما وأن الشيخ نفسه لم يفت بهما في (المبسوط)، حيث قال ما نصه:
«وأما إن شهدا بالطلاق ثم رجعا لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون قبل الدخول أو بعده، فإن كان بعد الدخول فعليهما مهر مثلها عند قوم، وقال آخرون: لا ضمان عليهما وهو الأقوى عندي، لأن الأصل براءة ذمتهما. وإذا شهدا بالطلاق قبل الدخول ثم رجعا، فإن الحكم لا ينقض، وعليهما الضمان عند قوم. وكم يضمنان؟ قال قوم: كمال المهر، وقال آخرون نصف المهر وهو الأقوى، ومن قال بهذا منهم من قال نصف مهر المثل، ومنهم من قال نصف المسمى، وهو الأقوى عندنا، ومنهم من قال: إن كان المهر مقبوضاً لزمهما كمال المهر، وإن لم يكن مقبوضاً لزمهما نصف المهر، والفصل بينهما إذا كان مقبوضاً غرمه كلّه لا يسترد شيئاً منه، لأنه معترف لها به لبقاء الزوجية بينهما، فلما حيل بينهما رجع بكلّه عليهما، وليس كذلك إذا كان قبل القبض، لأنه لا يلزم إلا إقباض نصفه، فلهذا رجع بالنصف عليهما وهذا قوي(15).
والحاصل: إن الخبرين إما مطرحان وإما مؤلان، وأن الحكم لا ينقض، وأنه لا ضمان على الشاهدين مع دخول الزوج، وأما ضمانهما نصف المهر إن كان شهادتهما قبل الدخول، فهو صريح المحقق والعلامة في (القواعد) وغيرهما(16). ولم يذكر أحد منهم دليلاً تطمئن إليه النفس لضمان الشاهدين نصف المهر حينئذ(17).
ومن هنا قال في (الجواهر): إن المتجه عدم ضمان شيء إن لم يكن إجماعاً بناء على أن الطلاق لم يسبب استحقاق شيء، بل هو على فرض حصوله من الفواسخ، وكان المهر كلّه واجباً بالعقد، وليس هو معاوضة حقيقة، ولذا يجب جميعه على الأصح في صورة الموت، ولكن للدليل في الطلاق سقط نصفه وبقي النصف الآخر مستحقاً بالعقد، وحينئذ، فلم يغرماه بشهادتهما شيئاً.
إلا أنه كان له حبس المهر على التمكن من البضع، وقد فات بالشهادة المزبورة، وهو أمر غير متقوم، مع أنه لا يتم في ما إذا كانت شهادتهما بعد دفعه المهر لها، وإسقاط حقه من الحبس المزبور.
وهذا وجه إشكال الفاضل في (التحرير)، إلا أنه لم أجده قولاً لأحد من أصحابنا، نعم، قد تشعر عبارة المبسوط السابقة بوجود قائل بعدم الضمان أصلاً.
ولعلّ الإتفاق المزبور كاف في الفتوى بضمان النصف الذي هو مستحق عليه باعترافه بالزوجية المقتضية وجوب النصفين عليه.
نعم، لو قلنا بأن الطلاق سبب في غرامة مقدار نصف المهر اتجه حينئذ تعزيهما ذلك، لفرض بقاء المهر في ذمته مستحقاً عليه باعترافه، وهذا غرامة حدثت بسبب شهادة الطلاق(18).
وبناء على انتقاض الحكم برجوع الشاهدين، ورجوع المرأة إلى الزوج. الأوّل، فإن المتضرر بالشهادة هو الزوج الثاني، فإن كانت شهادتهما قبل دخوله فالضمان عليهما بالنصف، وإن كانت بعده فلا ضمان.
هذا إن كان للزوجة مهر مسمّى.
قال في (الجواهر): ولو لم يكن لها مسمّى وجب نصف المتعة بناء على وجوبها(19).
قلت: لم يتّضح لنا معنى هذه العبارة، فإن المتعة ليس لها قدر معين.
هذا كلّه لو شهدا بطلاق امرأة.
(1) شرائع الإسلام 4 : 144.
(2) جواهر الكلام 41 : 231.
(3) مسالك الأفهام 14 : 305.
(4) النهاية : 336.
(5) جواهر الكلام 41 : 232.
(6) وسائل الشيعة 27 : 330/1 . كتاب الشهادات ، الباب 13.
(7) مسالك الأفهام 14 : 306.
(8) وسائل الشيعة 27 : 331/3 . كتاب الشهادات ، الباب 13.
(9) جواهر الكلام 41 : 232.
(10) جواهر الكلام 41 : 232.
(11) ولعله لذا لم يشكل صاحب المسالك في الخبر بذلك، بل اكتفى بالجواب عنه بقوله: « والرواية ضعيفة بإبراهيم، فإنه واقفي وإن كان ثقة » لكن هذا إنما يتم على مسلكه الذي لم يوافق عليه إلا القليل، كما فصل في محلّه، ثم إنه رحمه الله ذكر حمل الرواية على ما لو تزوّجت بمجرد الشهادة من غير حكم الحاكم، وقد ذكر هذا الحمل جماعة منهم المحقق نفسه في النافع ( المختصر النافع : 283 ).
(12) جواهر الكلام 41 : 232 ـ 233.
(13) مختلف الشيعة 8 : 527.
(14) مسالك الأفهام 14 : 306.
(15) المبسوط 8 : 247 . وقال في الخلاف ( كتاب الخلاف 6 : 222 المسألة 77 ) : « إذا شهد شاهدان على طلاق امرأة بعد الدخول بها، وحكم الحاكم بذلك، ثم رجعا عن الشهادة، لم يلزمهما مهر مثلها ولا شيء منه. دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، فمن أوجب عليهما شيئاً فعليه الدلالة. وأيضاً : ليس خروج البضع عن ملك الزوج له قيمة، بدلالة أنه لو طلق زوجته في مرضه لم يلزم مهر مثلها من الثلث، كما لو أعتق عبده أو وهبه، فلما بطل ذلك ثبت أنه لا قيمة له، وكان يجب أيضاً لو كان عليه دين يحيط بالتركة فطلّق زوجته في مرضه، أن لا ينفذ الطلاق كما لا ينفذ العتق والعطاء، فلما نفذ طلاقه ثبت أنه لا قيمة له، لخروجه عن ملكه، فإذا ثبت أنه لا دية له لم يلزمه ضمان كما لو أتلفا عليه ما لا قيمة له.
المسألة 78: إذا شهدا عليه بالطلاق قبل الدخول بها ففرق الحاكم بينهما ثم رجعا، غرما نصف المهر، وبه قال أبو حنيفة، وللشافعي فيه قولان… دليلنا : إنه إذا حيل بينهما قبل الدخول لزمه نصف المهر، فوجب أن لا يرجع عليهما إلا بقدر ما غرم. وأيضا: الأصل براءة الذمة، وما ألزمناهما مجمع عليه، وما زاد عليه ليس عليه دليل. وأيضاً: فإنه إذا طلقها قبل الدخول بها عاد إليه نصف الصداق، فلو قلنا يرجع عليهما بكل المهر حصل له مهر ونصف، وذلك باطل.
(16) قواعد الأحكام 3 : 511 ، مسالك الأفهام 14 : 305.
(17) أقول توضيحاً للمسألة وتحريراً لمواضع الخلاف فيها:
أولاً: إنه قد اختلفت عبارات الأصحاب في عنوان هذه المسألة، فالمحقق في المتن يقول: « إذا شهدا بالطلاق ثم رجعا، فإن كان بعد الدخول لم يضمنا، وإن كان قبل الدخول ضمنا له نصف المهر المسمى، لأنهما لا يضمنان إلا ما دفعه المشهود عليه بسبب الشهادة » هذه عبارته، ولا تعرّض فيها لحكم الحاكم ولا لخلاف للشيخ، مع أن من عادته التعرض لأقوال الشيخ كما هو معلوم . وفي النافع ( المختصر النافع : 283 ) يقول: « لو شهدا بطلاق امرأة فتزوجت ثم رجعا، ضمنا المهر وردت إلى الأول بعد الاعتداد من الثاني. وتحمل هذه الرواية على أنها نكحت بسماع الشهادة لا مع حكم الحاكم، ولو حكم لم يقبل الرجوع » . فتراه يورد أولاً مضمون صحيحة محمد بن مسلم فيحملها على المحمل المذكور، ثم ينصّ على أنه لو حكم الحاكم لم يقبل الرجوع، ولا تعرض في كلامه لحكم الضمان . والعلامة في التحرير ( تحرير الأحكام 5 : 286 ) يقول: « لو شهدا بطلاق امرأة رجعا أو رجع أحدهما قبل الحكم بطلت شهادتهما وبقيت على الزوجية، وإن رجعا بعد الحكم، فإن كان ذلك قبل الدخول .. ».
فتراه يفصّل في العنوان بين الرجوع قبل الحكم والرجوع بعده، ويجعل التفصيل بين ما إذا كان بعد الدخول أو قبله متفرعاً على الصورة الثانية، ومن هنا أضاف في المسالك والجواهر قيد « وحكم به الحاكم » إلى عبارة الشرائع.
فيكون عنوان هؤلاء للمسألة هو: رجوع الشاهدين بعد الحكم بشهادتهما بثبوت الطلاق عن الشهادة.
أما الشيخ، فقد أوردنا عباراته في النهاية والخلاف والمبسوط، وكذلك أوردها العلامة في المختلف ( مختلف الشيعة 8 : 525 526 )، والملاحظ أن عنوانه للمسألة في الخلاف والمبسوط يختلف عما هو في النهاية، أما في الكتابين فقد تعرض لـ « حكم الحاكم » وأما في النهاية فجاءت عبارته مطابقة للنص كما هو حال هذا الكتاب غالباً والنص إما صحيحة محمد بن مسلم وإما موثقة إبراهيم بن عبد الحميد، وكلاهما خال عن « الحكم »، بل المراد تزوج المرأة بشهادتهما ثم رجوعهما عن الشهادة وقد تزوجت بزوج آخر ، والخبران ظاهران في هذا، وقد أفتى المحقق في النافع بهما كما علمت.
فظهر أن الشيخ غير مخالف في النهاية في مفروض القوم، وما في الجواهر من قوله: « بلا خلاف أجده في شيء من ذلك إلا ما يحكى عن الشيخ في النهاية… » في غير محلّه. بل تلك مسألة أخرى. كما ظهر أن عبارة النهاية والخبرين ظاهرة في تلك المسألة، ولا حاجة إلى حملها عليها.
ثم، إنه قد نسب إلى الكليني والصدوق والقاضي والحلبي موافقة الشيخ فيما عنونه وذهب إليه في النهاية، فالخبران معمول بهما عند قدماء الأصحاب لا معرض عنهما، وقد عرفت عبارة المحقق في النافع.
ثم إني بعد أن كتبت هذا، راجعت مباني تكملة المنهاج فوجدته دام ظله قد عنون في متنه المسألة بقوله: « إذا أنكر الزوج طلاق زوجته وهي مدعية له، وشهد شاهدان بطلاقها، فحكم الحاكم به ثم رجعا وأظهرا خطأهما فإن كان بعد الدخول… » ثم عنون مسألة النهاية بقوله: « إذا شهد شاهدان بطلاق امرأة زوراً، فاعتدت المرأة وتزوجت زوجاً آخر مستندة إلى شهادتهما، فجاء الزوج وأنكر الطلاق… » واستدلّ على الحكم فيها بموثقة إبراهيم بن عبد الحميد واصفاً إياها بالصحيحة على مبناه.
وثانياً: إن الحكم بعدم انتقاض الحكم برجوع الشاهدين بعده غير صاف عن الإشكال، ففي الكفاية: وإن رجعا بعد حكم الحاكم بالمفارقة فالمقطوع به في كلامهم أنه لا ينتقض الحكم بل يثبت الطلاق، لأنه ثبت بالبينة المقبولة وحكم به الحاكم بالقضاء المبرم، فلا يبطل بمجرد رجوع الشهود المحتمل للصحة والفساد، فإن الثابت بدليل شرعي لا ينتقض إلا بدليل شرعي. قال: وفي التعليل تأمل ( كفاية الأحكام 2 : 783 ) . بل قال في المستند ( مستند الشيعة 18 : 426 ) بناءاً على ظهور الخبرين في انتقاض الحكم كما ذكر القوم، ولذا قالوا بأنهما مخالفان للقواعد المحكمة « أي دليل شرعي أقوى من الصحيح والموثق، الموافقين لفتوى جمع من أساطين القدماء، وغير المخالفين لفتوى جمع من المتأخرين، حيث ترددوا في المسألة مع نقل أقوال أخر فيها أيضاً عن جماعة؟ وهل يطلق على مثل ذلك الحديث الشاذ النادر؟ وهل ذلك الدليل أضعف من حديث درء الحدود بالشبهات الذي نقضوا به الحكم المبرم في الحدود كما مرّ؟ مع أنه يمكن الكلام في تعيين الشبهة وصدقها في المورد. ولعلّه من هنا قال في جامع المدارك ( جامع المدارك 6 : 161 ): إن ما في المتن من أنه إذا كان ما ذكر بعد الحكم لم يقبل الرجوع مشكل جداً، حيث أن النكاح ليس من قبيل الأموال، فإن المحكوم عليه فيها مع قطعه بأن الحكم على خلاف الواقع لابدّ له من التسليم في الظاهر ، والمرأة كيف يجوز لها أن تمكّن نفسها للأجنبي، بل يشكل تسليم من حكم عليه بالقتل نفسه للقتل مع رجوع من شهد، بل مع عدم الرجوع وكون المحكوم عليه غير مستوجب للقتل.
وثالثاً: ما ذهب إليه المحقق في المتن من وجوب نصف المهر على الشاهدين إن كانت شهادتهما قبل دخول الزوج ، منسوب إلى الأكثر في المستند وإلى المشهور في مباني التكملة، لكنه غير خال عن الإشكال، فالعلامة في التحرير ( تحرير الأحكام 5 : 287 ) وإن وافق عليه بالتالي إلا أنه أشكل عليه بقوله: عندي في هذه المسألة إشكال، ينشأ من كون الرجوع انما يثبت على الشاهد فيما يتلفه بشهادته، ووجوب نصف المهر قبل الدخول أو المهر بعده لم يتلف من الزوج شيئاً، لأنه واجب عليه، سواء طلق أو لم يطلق … .
وصاحب الجواهر ظاهره التردد فيه، قال في المستند: وهو في موقعه جدّاً، للزوم النصف بمجرد العقد وتلفه به، سواء كانت باقية على التزويج أو حصل موت أو طلاق، فلم تتضمن الشهادة اتلافاً… وتوجيه الإتلاف بأنه كان في معرض السقوط بالردة أو الفسخ من قبلها فكأنه لم يكن لازماً ولزم باقرارهما. نادر جداً، لأن مجرد ذلك الاحتمال العقلي الذي لا يلتفت إليه عقل سليم لا يصدق الاتلاف الموجب للضمان عرفاً، بل غايته احتمال اتلاف ضعيف غايته، وهل يترك أصل البراءة التي هي القاعدة المجمع عليها المدلول عليها كتاباً وسنة بمثل ذلك الاحتمال؟
فإن قلت: إلزام ما هو محتمل السقوط ولو بالاحتمال الضعيف أيضاً ضرر عليه.
قلنا: لو سلّم ذلك فاللاّزم ضمان ما يصلح أن يكون بأزاء ذلك الضرر عرفاً وقيمة له، لا نصف الصداق، مع أنها قد تكون قد أبرأته عن النصف، أو تصالحه بشيء قليل بعد الصداق، فالقول بضمان نصف الصداق مشكل.
وتوهّم الاجماع المركب فيه بعد وجود أقوال شتى في المسألة ولو كان بعضها ضعيف المأخذ فاسد، والأصل يحتاج رفعه إلى دليل ثابت، وإلا فهو أقوى دليل.
وفي مباني تكملة المنهاج: الأظهر عدم الضمان خلافاً للمشهور، ثم استدلّ بما ذكره النراقي.
أما السيد الاستاذ دام ظله فقد تأمّل فيما ذكر وجهاً للمشهور بل أعلّه، لكنه كالجواهر يأبى عن مخالفة المشهور.
(18) جواهر الكلام 41 : 236.
(19) جواهر الكلام 41 : 236.