المسألة الخامسة
(في ما لو رجع الشهود وكان المشهود به قتلاً أو جرحاً)
قال المحقق قدّس سرّه: «المشهود به إن كان قتلاً أو جرحاً فاستوفي ثم رجعوا، فإن قالوا: تعمدنا أُقتص منهم، وإن قالوا: أخطأنا، كان عليهم الدية، وإن قال بعض تعمدنا وبعض أخطأنا…»(1).
أقول: المشهود به إن كان قتلاً أو جرحاً وكانت الشهادة جامعة للشرائط المعتبرة، حكم الحاكم بالاستيفاء… ثم إذا رجع الشهود عن شهادتهم التي استند إليها الحكم وكانوا السبب الواقعي لقتل المشهود عليه أو جرحه سئلوا عن شهادتهم الاولى:
فإن قالوا: تعمدنا الكذب، اقتص منهم(2)، وذلك لما ذكرنا من قاعدة قوة السبب على المباشرة، وفي (الكفاية) إنه المقطوع به في كلام الأصحاب(3).
وإن قالوا: أخطأنا، كان عليهم الدية. وظاهر قول المحقق وغيره: «عليهم» هو كونها في أموالهم، وبه صرح في (الجواهر)(4).
أقول: أما الانتقال إلى الدية فلا كلام فيه، إنما الكلام في أنه من الخطأ المحض أو أنه شبيه عمد؟
قال في (المسالك): «فإن قالوا أخطأنا، فعليهم الدية على ما يفصل في قتل الخطأ»(5) وظاهره أنه من الخطأ المحض، وتبعه بعضهم كصاحب (كشف اللثام) حيث قال: «فعليهم الدية في أموالهم، لأنه ثبت بإقرارهم، إلا أن تصدقهم العاقلة»(6).
وقال صاحب (الجواهر): لأنه شبيه عمد.
أقول: «الخطأ» هو وقوع «القتل» مثلا بلا قصد منه إليه، كما لو رمى حيواناً فأصاب إنساناً وقتله.
و «شبه العمد» هو أن يكون قاصداً للقتل لكن يشتبه في تطبيق من يقصد قتله فيقتل غيره، كمن حفر بئراً على طريق زيد قاصداً وقوعه فيها لأنه مهدور الدم فوقع فيها فمات، ثم ظهر كون المهدور دمه غير زيد.
و «العمد» هو القيام بهذه المقدّمات، مع عدم الإشتباه في التطبيق والعلم بكونه معصوم الدم.
ففي «العمد» القصاص.
وفي «شبه العمد» الدية في ماله.
وفي «الخطأ» الدية على العاقلة.
فصاحب (الجواهر) يقول بثبوت الدية في مال الشهود، لأنه شبيه عمد، وصاحب (كشف اللثام) يقول: بثبوتها في أموالهم، لأن الخطأ قد ثبت بإقرارهم لا بالبينة والإقرار إنما يقبل إذا كان من المقرّ على نفسه، فلا يفيد لثبوتها على العاقلة إلا إذا صدّقوهم.
فالكلّ متفقون على ثبوت الدية في أموالهم، إلا أن (كاشف اللثام) يقول بثبوتها في أموال العاقلة إن صدقتهم، وتحقيق المطلب في محلّه إن شاء الله تعالى.
قال في (الجواهر): وكأن الوجه في التمسك بقولهم: «تعمدنا» و «أخطأنا» أنه غالباً لا يعرف ذلك إلا من قبلهم(7).
قلت: كأنه جواب سؤال مقدّر هو: إنه كيف يقبل منهم قولهم: «تعمّدنا» أو «أخطأنا» ويرتب الأثر عليه، مع أن من الممكن أن يكون متعمداً في الواقع ثم يدعي الخطأ؟
فالجواب: إن القصد وعدم القصد أمران قلبيّان، لا يمكن إقامة البينة أو البرهان عليهما، فهما كبعض الأحكام المتعلقة بالنساء لا يعرفان إلا من قبل القاتل نفسه.
ثم ذكر رحمه الله فرعاً وهو: ما إذا رجعوا عن الشهادة ومنع مانع من قول «تعمّدنا» أو قول «أخطأنا» فلم يعرف الأمر من قبلهم، ولا طريق آخر لمعرفة ما إذا كانوا متعمدين فالقصاص أو مخطئين فالدية، فهل يلزم بالدية لأنه لا يبطل دم امرئ مسلم، أو يوقف الحكم حتى يعلم الحال، ولو بأن ينتقل القصاص على فرضه إلى الدية بموت ونحوه؟ وجهان.
قال في (الجواهر): لا يخلو أولّهما من قوّة(8).
(1) شرائع الإسلام 4 : 143.
(2) قال في الجواهر هنا « إن أمكن ». وهو إشارة إلى أن عبارة المحقق « اقتص » أعم من القتل والجرح، والقصاص في الطرف وهو الجرح قد يمكن وقد لا يمكن، فإن أمكن اقتص وإلا انتقل إلى الدية. وهذا معنى عبارة المسالك: فإن قالوا تعمدنا فعليهم القصاص أو الدية في موضع لا يقتص فيه من المتعمد موزعة على ما هو مذكور في الجنايات، وكذا في المستند وغيره.
(3) كفاية الأحكام 2 : 783.
(4) جواهر الكلام 41 : 225.
(5) مسالك الأفهام 14 : 300.
(6) كشف اللثام 10 : 375.
(7) جواهر الكلام 41 : 225.
(8) جواهر الكلام 41 : 225.