الفرع الثالث
(لو قامت بينة بجرح الشهود ونقض الحكم فمن الضامن؟)
قال المحقق قدّس سرّه: «لو حكم فقامت البينة بالجرح مطلقة لم ينقض الحكم، لاحتمال التجدد بعد الحكم، ولو تعين الوقت وهو متقدم على الشهادة نقض، ولو كان بعد الشهادة وقبل الحكم لم ينقض»(1).
أقول: هذا الفرع يشتمل على مطالب.
فالمطلب الأوّل يتعلّق بالنقض وعدمه:
وذلك، لأنه لو حكم الحاكم ببينة، فقامت بينة بجرح تلك البينة، فالبينة الجارحة إما هي مطلقة غير معينة للجرح بوقت، وإما هي معينة له، وعلى الثاني، فإمّا يكون وقت الجرح متقدماً على الشهادة، وإما يكون وقته بعد الشهادة وقبل الحكم، فهذه ثلاث صور.
أمّا في الصورة الاولى، حيث الجرح غير معين الوقت، فالحكم عدم نقض الحكم، قال المحقق: لاحتمال تجدد الفسق بعد الحكم.
وقد استدل له في (الجواهر) بموافقة الحكم لأصل الصحة واستصحابها(2).
لكن في هذا الاستدلال نظر ذكرناه سابقاً، نعم، لا مانع من استصحاب عدالة الشاهد المتيقنة سابقاً حتى حال الحكم، وقد ذكرنا أن ظاهر آية النبأ وجوب التبين من نبأ الفاسق في حين المجئ بالنبأ، أو يجرى أصالة الصحة في يقين الحاكم في حين الحكم.
لكن الأولى مع ذلك هو الاستدلال لعدم النقض بأدلّة نفوذ حكم الحاكم، فإنها تقتضي حرمة النقض حتى يحصل العلم بمخالفة الحكم للموازين، والمفروض عدم العلم هنا بكون الشاهد فاسقاً حين الحكم.
وأمّا في الصورة الثانية، حيث وقت الفسق متقدم على الشهادة، فالحكم نقض الحكم بذلك، لتبين اختلال موازينه.
وأمّا في الصورة الثالثة، حيث وقت الفسق متأخر عن الشهادة، فالحكم عدم نقض الحكم، لأن اللازم هو العدالة حين أداء الشهادة. والفسق بعده غير مضر بالحكم وإن كان قبله. وإذ لم يمنع الحكم في هذه الحال فلا يوجب انتقاضه إن كان بعده بالأولوية… خلافاً لجماعة قالوا باشتراط بقائه على العدالة حتى حين الحكم وبعده… وقد تقدم الكلام على ذلك في محلّه.
والمطلب الثاني يتعلق بالضمان حيث ينقض بالحكم، قال المحقق:
«وإذا نقض الحكم، فإن كان قتلاً أو جرحاً فلا قود، والدية في بيت المال، ولو كان المباشر للقصاص هو الولي، ففي ضمانه تردد، والأشبه أنه لا يضمن مع حكم الحاكم وإذنه، ولو قتل بعد الحكم وقبل الأذن ضمن الدية»(3).
أقول: إذا نقض الحكم، فتارة يكون المحكوم به حدّاً أو قصاصاً وأخرى: يكون مالاً.
فإن كان حدّاً من قتل أو جرح وباشره الحاكم أو من أمره بها فلا قود، بل يثبت للمحدود الدية، لأنه حينئذ قد قتل بلا مجوز فلا يبطل دمه، لكنها ليست على الحاكم أو من أمره، بل في بيت مال المسلمين، للنص المروي عندنا، قال أمير المؤمنين عليه السلام في خبر الأصبغ: «إن ما أخطأت القضاة من دم أو قطع فهو على بيت مال المسلمين»(4) والمراد من «القضاة» فيه هو «القضاة العدول». فإنه إذا قضى القاضي العدل حسب الموازين ثم ظهر الخطأ في حكمه، كان خطؤه في الحكم في بيت مال المسلمين المعدّ للمصالح التي لا ريب في أن ذلك منها، وإلا لأدّى إلى ترك الحكم بالشهادة تحرزاً عن ضرر الدرك.
وإن كان قصاصاً وباشره ولي الدم، فقد تردد المحقق رحمه الله في ضمانه، ثم رجح التفصيل بين ما إذا كانت مباشرته مع حكم الحاكم وإذنه فلا ضمان، وبين ما إذا كان مع الحكم وقبل الإذن ضمن الدية… وحاصله عدم القود كذلك، لأنه قتل خطأ.
ووجه تردد المحقق هو: كون الولي هو المباشر من جهة، وكون السبب في قتله هو حكم الحاكم، وأقوى من المباشرة.
وفي (المسالك): «لو باشر القتل بعد الحكم وقبل إذن الحاكم له في الاستيفاء تعلّق به الضمان، لتوقف جواز استيفائه على إذن الحاكم وإن كان أصل الحق في ذلك له. ويحتمل عدم الضمان هنا أيضاً، وإن أثم، لأن حكم الحاكم بثبوت الحق اقتضى كونه المستحق، وإن أثم بالمبادرة بدون إذن الحاكم»(5).
أقول: هنا بحثان:
فالأوّل: هل يعتبر إذن الحاكم في الاستيفاء أو لا يعتبر؟
لقد قال المحقق في كتاب القصاص: «إذا كان الوليّ واحداً جاز له المبادرة، والأولى توقفه على إذن الإمام»(6).
وهذا وإن كان لا يخلو من تشويش، لأن «الأولى» لا يجتمع مع توقفه على الإذن، ولعلّه من هنا أضاف في (الجواهر) الأحوط إلى «الأولى»(7) ينافي ما ذكره هنا، لأنه إذا كانت المباشرة جائزة بلا إذن فلا وجه للضمان، وإلا فالضمان، فبين الكلامين تهافت.
اللهم إلا أن يكون القول بعدم جواز القصاص بلا إذن، من جهة كون القصاص من الحدود، وهي لا تقام إلا بيد الحاكم أو باذنه، ولكن إذا كان كذلك، فلم يقال بجواز المبادرة بلا إذن؟
وهنا أشكل (الجواهر) بعدم ما يدلّ على اعتبار الإذن في الإستيفاء بعد الحكم، قال: بل لعلّ ظاهر الأدلّة كتاباً أي: كقوله تعالى: (وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً)(8) ونحوه وسنةً عدمه، وقياس القصاص على الحد أو دعوى أنه منه كما ترى(9).
والبحث الثاني: إنه قد تقرر كون الضمان على السبب لكونه أقوى من المباشر، فمن السبب في هذه المسألة؟
قد أشكل (الجواهر) على المحقق بأن اعتبار الإذن وعدم اعتباره لا مدخلية له في أقوائية المباشرة على التسبيب، بل لو سلّم تساويهما كان الضمان على المباشر، لأنه هو القاتل حقيقة، ولعلّه لذا يحكى عن قول العامة بأن على الولي الدية وإن كان مأذوناً، بل هو ظاهر إطلاق تردد المصنف أيضاً، وإن اختار التفصيل بعده، قال: وهو لا يخلو من قوة إن لم يكن إجماعاً(10).
قلت: لكن يرد على (الجواهر) أنه قال بضمان الشهود إذا رجعوا، لكونهم السبب، وهو أقوى من المباشر، فلماذا لم يقل هنا بضمان الحاكم بناء على ذلك؟
والشيخ رحمه الله ذكر التفصيل كالمحقق، لأن القصاص كالحدّ يجب إجراؤه بيد الحاكم، وإن كان من حقوق الناس، دفعاً للهرج والمرج واختلال النظام، فلو أراد الولي المباشرة توقف على إذن الحاكم، ولو كان بدونه كان ضامناً.
فتحصل: إن التفصيل يتوقف على وجود الدليل على اعتبار الإذن، وكون المباشرة أقوى من التسبيب.
هذا كلّه إن كان المحكوم به حدّاً أو قصاصاً. قال المحقق:
«وأما لو كان مالاً، فإنه يستعاد إن كانت العين باقية، وإن كانت تالفة فعلى المشهود له، لأنه ضمن بالقبض، بخلاف القصاص. ولو كان معسراً قال الشيخ ضمن الإمام، ويرجع به على المحكوم له إذا أيسر(11). وفيه إشكال من حيث استقرار الضمان على المحكوم له بتلف المال في يده، فلا وجه لضمان الحاكم»(12).
أقول: هذا هو المطلب الثالث، فإنه لو كان المحكوم به مالاً بأن قامت بيّنة على كون المال الذي بيد زيد هو لعمرو فحكم الحاكم، ثم قامت بيّنة أخرى على جرح الأولى نقض الحكم. فإن كانت عين المال باقية استردّت وإن كانت تالفة ضمن المشهود له، قال المحقق: «لأنه ضمن بالقبض» أي: إنه ضمان يد، وعلى اليد ما أخذت حتى تؤدي، وأما بالنسبة إلى النفس فهو ضمان الإتلاف.
قال في (الجواهر): إن قوله: ضمن بالقبض إشارة إلى ما يحكى عن الشيخ من الفرق بينه وبين الدية، بأن الحكم إن كان بالمال حصل في يد المشهود له ما يضمن باليد، وضمان الإتلاف ليس بضمان اليد، فلهذا كان الضمان على الإمام لكنّه كما ترى إذ الإتلاف وإن لم يكن ضمان يد لكنه ضمان لمباشرة الاتلاف المندرج في قاعدة من أتلف، ومن قتل مؤمناً خطأ، وغير ذلك(13).
قلت: هكذا قالوا، لكن يمكن التفريق بين التغرير وعدمه، فإنه حيث يكون التغرير يرجع المغرور على من غرّه، وإن كان الشيء تالفاً بيده.
فإن كان المحكوم عليه بالضمان معسراً، قال الشيخ: ضمن الإمام، ويرجع به على المحكوم له إذا أيسر، لأن الحاكم قد تسبب إلى إتلاف المال.
وفيه: إنه لا وجه لضمان الحاكم، بل المتجه إنظار الضامن، لعموم قوله تعالى: (فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة)(14) للمقام.
(1) شرائع الإسلام 4 : 144.
(2) جواهر الكلام 41 : 240.
(3) شرائع الإسلام 4 : 144 ـ 145.
(4) وسائل الشيعة 27/226 الباب 10 من أبواب آداب القاضي ، رواه الصدوق والشيخ بإسنادهما إلى الأصبغ . ويلاحظ إسنادهما إليه.
(5) مسالك الأفهام 14 : 313.
(6) شرائع الإسلام 4 : 228.
(7) جواهر الكلام 42 : 288.
(8) سورة الاسراء 17 : 33.
(9) جواهر الكلام 41 : 242.
(10) جواهر الكلام 41 : 242.
(11) المبسوط في فقه الإماميّة 8 : 250.
(12) شرائع الإسلام 4 : 145.
(13) جواهر الكلام 41 : 242.
(14) سورة البقرة 2 : 280.