الصورة الثالثة: أن يرجعا بعد الحكم وقبل الاستيفاء
وهو تارة حدّ، واخرى حق، والأوّل: منه ما يكون لله تعالى محضاً ومنه: ما يكون للآدمي محضاً، ومنه: ما يكون مشتركاً.
فإن كان حدّاً، فقد اختار المحقق نقض الحكم فيه مطلقاً إذ قال: «فإن كان حدّاً لله تعالى نقض الحكم، للشبهة الموجبة للسقوط، وكذا لو كان للآدمي كحدّ القذف، أو مشتركاً كحد السرقة»(1).
قلت: لا ينبغي الكلام في سقوط حدّ الله المحض، والدليل عليه ما أشار إليه المحقق من تحقق الشبهة الموجبة للسقوط برجوع الشهود، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ادرأوا الحدود بالشبهات»(2). ثم عطف عليه المحقق حدّ الآدمي المحض والحدّ المشترك بينه تعالى وبين الآدمي… والدليل على ذلك عموم الحديث لهذين القسمين أيضاً.
ولكن، إذا كان المقصود من «الشبهة» هو الشبهة بالنسبة إلى واقع الأمر، فإنها موجودة حتى مع عدم رجوع الشهود، لأن الشهادة قد تطابق الواقع وقد لا تطابقه، ولازمه عدم الحكم بشهادة من الشهادات إلا إذا كان الشاهد معصوماً ، وإن كان المقصود منها الشبهة في الحكم على أثر الرجوع مثلاً، بمعنى الشك في وقوعه طبق الموازين الشرعية، فإن إطلاقات أدلّة نفوذ الحكم والقضاء ترفع هذه الشبهة، وتقتضي نفوذ الحكم. إلا إذا كان الحكم في حدّ لدليل «إدرأوا الحدود بالشبهات» وهو يعمّ الأقسام الثلاثة.
وكيف كان، ففي (الجواهر) إنه لا أجد في شيء من ذلك خلافاً محققاً. قال: نعم، في (القواعد) عبّر بلفظ الأقرب مشعراً باحتمال العدم، بل قال متصلاً بذلك: والإشكال في حدود الآدمي أقوى(3).
قلت: وفي (المسالك): «وإن كانت في حدّ لله تعالى قيل: لم يستوف، لأنه مبني على التخفيف، ويدرأ بالشبهة، وهي متحققة بالرجوع. وإن كان حق آدمي أو مشتركاً فوجهان: من تغليب حق الآدمي، ووجود الشبهة الدارئة له في الجملة، وهذا أولى، والمصنف جزم بالحكم في القسمين استضعافاً للفرق»(4).
ويمكن الاستدلال لعدم السقوط بمرسلة جميل، بناء على أن المراد من «قضى عليه» فيه هو الأعم من الاستيفاء وعدمه، فيشمل ما نحن فيه وهو الرجوع بعد الحكم وقبل إجراء الحدّ. لكن دليل «تدرأ الحدود بالشبهات» متقدّم بالحكومة على المرسلة وعلى أدلّة نفوذ الحكم لو لم نقل بانصرافها في خصوص الحدّ كما ذكرنا.
فالأقوى ما ذهب إليه المحقق.
وإن كان حقاً… فقد قال المحقق:
«وفي نقض الحكم في ما عدا ذلك من الحقوق تردد»(5).
أقول: يحتمل أن يكون مراده من «ما عدا ذلك من الحقوق» الآثار الشرعية التي تترتب تبعاً للحكم بالحدّ، ويحتمل أن يكون مراده هو «الحق» في مقابل «الحدّ» وهذا هو الأظهر.
ومنشأ تردد المحقق بناءاً على الاحتمال الثاني ما ذكره الشهيد الثاني حيث قال: «إن كانت الشهادة في مال استوفي، لأن القضاء قد نفذ فيه وليس هو مما يسقط بالشبهة حتى يتأثر بالرجوع. وفيه وجه آخر: إنه لا يستوفى، لأن الحكم لم يستقر بعد، والظن قد اختلّ بالرجوع»(6). وكذا في (كشف اللثام)(7)لكن ظاهرهما ترجيح الوجه الأوّل، ويدلّ عليه مرسلة جميل.
ومنشأ تردده بناءاً على الإحتمال الأوّل دلالة المرسلة على عدم النقض من جهة، ومن جهة أخرى: إن الرجوع يوجب الشك في وقوع الحكم طبق الموازين، فكما ينقض بالنسبة إلى الحدّ كذلك ينقض بالنسبة إلى الآثار. هذا أوّلاً. وثانياً: إن الحدّ والآثار كليهما معلولان لعلّة واحدة، فكيف التفكيك بينهما؟
والجواب: أما عن الأول: فبأن الآثار الاخرى عدا الحدّ ليس مما يسقط بالشبهة، فإن الدليل خص ذلك بالحدّ فقط.
وأما عن الثاني: فبأنه لا تلازم بين الأمرين، بل الحدّ والآثار التابعة حكمان شرعيّان، فلابدّ من امتثالهما، لأدلّة نفوذ حكم الحاكم، لكن الحكم قابل للتخصيص، وقد ورد المخصص في خصوص الحدّ دون الآثار، فالحكم بالنسبة إليها باق على حاله.
فالأقوى عدم نقض الحكم إلا في الحدّ.
ثم إن الآثار قد ذكرنا بعضها، وقد ذكر في (القواعد) و (الجواهر):
منها: آثار الشهادة بالردّة، فإن الحكم في المحكوم بردّته إذا رجع الشهود قبل قتله يسقط، للشبهة، لكن تبقى قسمة ماله واعتداد زوجته قال في (القواعد) وشرحه عدّة الوفاة إن كانت عن فطرة، أو عدّة الطلاق لو كانت عن غير فطرة(8).
ومنها: أثر الشهادة بالقتل، وهو القصاص، بناءاً على كونه من الحدود التي تدرأ بالشبهة، قال في (القوعد) وشرحها: «لو رجعا قبل استيفاء القصاص في النفس لم يستوف، احتياطاً في الدماء، وهل ينتقل إلى الدية؟ إشكال، من الشهادة بحق الآدمي ولما تعذر القصاص ثبت الدية لأنها بدله، ولئلاّ يطل دم امرئ مسلم. ومن أصل البراءة وأن الدية لا تثبت في العمد إلا صلحاً، وأن الرجوع عن الشهادة عليه أسقطه من أصله وإلا أوجب القصاص، فإن أوجبناها رجع بها عليهما أخذاً بإقرارهما»(9).
قلت: أوّلاً: ليس القصاص من الحدود حتى يعمه دليل الدرء.
وثانياً: لو كان دليل الإلحاق هو الإحتياط في الدماء، فلماذا لم تسقط آثار الحكم بالردّة إلحاقاً بسقوط القتل، مع أن المال والفرج مما يحتاط فيه كالنفس؟
وثالثاً: لو سلّم إلحاق القصاص بالحدود، فالأقوى هو الوجه الثاني، وهو عدم الإنتقال إلى الدية، لما ذكره كاشف اللثام واختاره صاحب (الجواهر)(10).
هذا، وفي (المسالك): وينبغي إلحاق العقوبات كالقتل والجرح بالحدود والعقود والإيقاعات بالمال، لسهولة خطرها وترجيحاً لحق الآدمي، ويحتمل إلحاق النكاح بالحدود، لعظم خطره وعدم استدراك فائت البضع(11).
فبالنسبة إلى «القتل والجرح» مثلاً قال: ينبغي الإلحاق، وبالنسبة إلى «النكاح» قال: يحتمل الإلحاق.
لكن في (الجواهر) نسب إليه احتمال إلحاق الثلاثة بالحدود(12).
وكيف كان، فإنه يضعف: بأن ما ذكره وجهاً للإلحاق لا يصلح معارضاً للدليل ، لأن دليل الدرء مخصوص بالحدود، وعظم خطر الامور المذكورة وإن كان صحيحاً لا يستوجب إلحاقها بالحدود، إلا مع القطع بالملاك.
(1) شرائع الإسلام 4 : 142 143.
(2) وسائل الشيعة 28 : 47/4 . أبواب مقدمات الحدود ، الباب 24.
(3) قواعد الأحكام 3 : 509 ، جواهر الكلام 41 : 222.
(4) مسالك الأفهام 14 : 297 298.
(5) شرائع الإسلام 4 : 143.
(6) مسالك الأفهام 14 : 297.
(7) كشف اللثام 10 : 374.
(8) قواعد الأحكام 3 : 509 ، كشف اللثام 10 : 374 375.
(9) قواعد الأحكام 3 : 509 ، كشف اللثام 10 : 375 ، جواهر الكلام 41 : 223.
(10) كشف اللثام 10 : 375 ، جواهر الكلام 41 : 223.
(11) مسالك الأفهام 14 : 298 .
(12) جواهر الكلام 41 : 223.