الصورة الثانية: أن يرجعا بعد الحكم والاستيفاء وتلف المحكوم به
قال المحقق: «ولو رجعا بعد الحكم والاستيفاء وتلف المحكوم به لم ينقض الحكم، وكان الضمان على الشهود»(1).
أقول: أما عدم نقض الحكم، فعليه الإجماع بقسميه كما في (الجواهر)(2).
وقد استدلّ له أيضاً بأمور:
الأوّل: مرسلة جميل. فأما دلالتها فتامّة، وأمّا سندها فمنجبر كما تقدم.
الثاني: الخبران النبوي والعلوي المتقدمان.
لكن فيه: أنهما ظاهران في صدور الحكم استناداً إلى الكلام الأوّل، فلا علاقة لهما بهذه الصورة.
الثالث: استصحاب الصحة.
لكن فيه: إنه إن كان المراد صحة الحكم، فإنّه بعد الرجوع ينكشف عدم تماميّة الحكم من أصله، وحينئذ، فلا حالة سابقة بالصحة حتى تستصحب، فهو نظير ما إذا باع خلاًّ فانكشف كونه خمراً حين العقد، فالعقد باطل من حينه، وليس كالبيع الواقع صحيحاً ثم إذا شك في انفساخه استصحب اللزوم . هذا إذا كان المستصحب صحة الحكم.
وإن كان المراد صحة الشهادة الاولى بأن يقال: الشهادة السابقة وقعت صحيحة واقعاً أو ظاهراً، فيستصحب تلك الصحة ويصح الحكم المستند إليها… ففيه: أن أدلة «ضع فعل أخيك على أحسنه»(3) لا تشمل الشهادة التي رجع عنها الشاهد نفسه، وإلا كان دليل الحمل على الصحة مشرعاً، ولو فرض تمامية أصالة الصحة في الشهادة الاولى، فإنها تجري في الثانية كذلك ، فيتعارضان.
الرابع: إطلاق ما دلّ على صحة ما لم يعلم فساده.
وفيه: إن هذا شامل للشهادة الثانية المكذبة للاولى أيضاً.
الخامس: إن الرجوع لا يدلّ على فساد الشهادة الاولى، إذ يمكن كون الرجوع كذباً، بل هو كالإنكار بعد الإقرار.
وفيه: إنما لا يسمع الإنكار بعد الإقرار، لأن الإقرار يكون دائماً في ضرر المقر، فإذا أنكر بعده كان للخلاص من الضرر، فلا يسمع، فالقياس مع الفارق.
السادس: إن الحكم الصادر نافذ بالاجتهاد به فلا ينقض بالإحتمال.
وفيه: إن عدم نقضه بالإحتمال محتاج إلى دليل، ولذا كان مانعاً عن الحكم لو كان الرجوع قبله، فلولا الدليل وهو مرسلة جميل لما تم الحكم بعدم النقض ، فهذا الوجه ساقط.
السابع: إن الشهادة أثبتت الحق، فلا يزول بالطاري كالفسق والموت.
وفيه: إنه إن كان الرجوع من الطوارئ كالموت تم ما ذكر، لكنه ليس كذلك، بل الرجوع يوجب الشك في صحة الشهادة الاولى…
فتحصل: عدم النقض في هذه الصورة، للمرسلة المنجبرة.
وأما ثبوت الضمان مثلاً أو قيمة أو قصاصاً أو دية أو نحو ذلك على الشهود، فلا كلام فيه كذلك، إنما الكلام في أنه يثبت نتيجة الإتلاف من الشهود، لكونه مستنداً في الحقيقة إليهم من جهة أن السبب أقوى، أو جاء نتيجة الحكم غير المنقوض. وذلك لأن ثبوت الغرم لا يلازم نفوذ الحكم بل ولا وجوده، فقد يتسبب الشخص في قتل أو تلف مال فيضمن من دون حكم. هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن للحكم غير المنقوض آثاراً اخرى، تترتب تبعاً للحدّ وإن رجع الشاهدان، كعدم جواز إمامة المشهود عليه، وعدم سماع شهادته فيما بعد، وعدم أهليته لمنصب القضاء ونحو ذلك.
إن أمكن إثبات الضمان على الشهود هنا بأدلة نفوذ الحكم بضميمة الإجماع، إذ لولا الإجماع لأمكن الخدش في الاستدلال بدعوى انصراف تلك الأدلّة عن الحكم المستند إلى الشهادة المرجوع عنها فهو، وإلا ففي كون السبب أقوى من المباشر لإثبات الغرم عليهم كفاية حتى لو فرض نقض الحكم. نعم مع نفوذ الحكم تترتب الآثار الاخرى، فتحرم اُخت الغلام الموطوء واُمه وبنته، وأكل البهيمة الموطوءة المأكولة، ويجب بيع غير المأكولة في بلد آخر… إلى غير ذلك من الآثار والتوابع… وستعرف ذلك.
هذا، وقد يستدلّ للضمان برواية جميل عن الصادق عليه السلام: «في شاهد الزور. قال: إن كان الشيء قائماً بعينه ردّ على صاحبه، وإن لم يكن قائماً ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل»(4). فإنه يدلّ على ضمان الشاهد، لكن صدره يدل على نقض الحكم بعد الاستيفاء مع قيام العين، لأن الردّ على صاحبه يكون بنقض الحكم وإلا بقيت العين في يد المشهود له وضمن الشهود، وهذا مخالف لما عليه المشهور، فإنهم يقولون بعدم النقض والضمان حتى مع بقاء العين(5) كما سيأتي في الصورة الرابعة، وهي الرجوع بعد الحكم والاستيفاء وعدم تلف العين.
(1) شرائع الإسلام 4 : 142.
(2) جواهر الكلام 41 : 222.
(3) وسائل الشيعة 12 : 302/3 . أبواب أحكام العشرة ، الباب 161 . وفيه : ضع أمر أخيك …
(4) وسائل الشيعة 27 : 327/2 . كتاب الشهادات ، الباب 11.
(5) أقول: ما المانع من تبعيض الخبر بأن نعمل بالذيل ونستدل به للمقام ونرفع اليد عن الصدر لمخالفة المشهور على المبنى؟ فالأولى هو الجواب عنه بما في الجواهر من أعمية الرجوع من شاهد الزور المعلوم كونه شاهد زور كما هو مفاد الخبر..