6 ـ العلم
قال: « والعلم ».
أقول: لا ريب في عدم نفوذ حكم الجاهل بالأحكام الشرعيّة وأنه يشترط كون القاضي عالماً، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: « القضاة أربعة ثلاثة في النار وواحد في الجنة: رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة »(1).
فهل المراد من العلم(2) في هذا الخبر ونحوه هو الإجتهاد المطلق أو يعمّ المتجزي وعلم المقلّد الذي يحكم بفتوى مقلَّده أو ناصبه أيضاً ؟
لقد حكي الإجماع على لزوم كون القاضي مجتهداً، والقدر المتيقّن منه هو ( المجتهد المطلق ) وأما بالنسبة إلى غيره فنقول: تارة يقال: بأن حكم الحاكم موضوع للنفوذ ووجوب الإمتثال، وأخرى يقال: بأنه بيان لحكم الإمام عليه السلام فيكون كناقل الحكم، فبناء على الثاني: ينفذ حكمه، سواء كان مقلّداً أو مجتهداً مطلقاً أو متجزياً، وعلى الأوّل: يكون لحكمه موضوعيّة، فيتوقّف جواز الرجوع إلى المقلّد والمتجزي ونفوذ حكمهما على حجة شرعية، ومع الشك فالأصل عدم النفوذ.
وقد استدلّ لجوازه برواية أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: « إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإني قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه »(3) ، فإن كلاًّ من المقلّد والمجتهد المتجزي « يعلم شيئاً… ».
وقوله عليه السلام: « فإني… » يكشف عن أن القضاء منصب، وليس وجوبه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرواية تعمّ زمان الغيبة والحضور معاً.
لكن قال المجلسي قدّس سرّه(4) : هي خاصة بزمان الحضور، ولم يكن القضاة في ذلك الزمان مجتهدين بل كانوا يروون أحكام الأئمة ويرجعون إليهم.
وفيه: إن ظاهر قوله عليه السلام: « يعلم شيئاً… » اشتراط كونه عالماً، سواء مع الواسطة أو بدونها، فلا اختصاص بزمان الحضور، وسواء علم بالكبريات وعرف تطبيقها على الموارد الجزئية باجتهاده أو لم يكن كذلك، خلافاً للعلامة المذكور حيث استظهر منها الدلالة على اعتبار الإجتهاد… والرواية مشتهرة بين الأصحاب كما في (المسالك ) ، وهو يجبر ضعف سندها(5) لو كان، يرويها الشيخ الكليني قدّس سرّه(6) عن أحمد بن محمد بن خالد، وطريقه إليه صحيح، وأحمد ثقة ، و « أبو خديجة » ضعّفه الشيخ(7)ووثّقه النجاشي(8) والعلامة في ( المختلف )(9) وأبو علي في كتاب ( الرجال الكبير )(10)ولدى التعارض بين الجرح غير المفسر والتعديل، فالتعديل مقدّم(11).
إلا أن مقتضى قول صاحب الزمان أرواحنا له الفداء: « وأما الحوادث الواقعة ، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله »(12) ومقبولة عمر بن حنظلة: « سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلّ ذلك ؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل، فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ )(13).
قلت: فكيف يصنعان ؟ قال: ينظران من كان منكم، ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا و حرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخفّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا كالرادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله »(14) لزوم كون القاضي مجتهداً .
وهذه الرواية أيضاً مشتهرة بين الأصحاب كما في ( المسالك )(15) كذلك ، ويكفي لاعتبارها اشتهارها بالمقبولة بينهم، بل لا يوجد في سندها من توقف في توثيقه إلاّ « داود بن الحصين » قال الشيخ: واقفي(16)، لكن وثّقه النجاشي(17)، فهي موثقة معتبرة(18) .
أقول: ويمكن الجمع بين روايتي أبي خديجة وعمر بن حنظلة بأن يقال: بأنه لا تنافي بين منطوقيهما، وإنما التنافي بين مفهوم رواية ابن حنظلة ومنطوق رواية أبي خديجة، فإن مفهوم تلك: من لم يرو حديثنا ولم ينظر في حلالنا و حرامنا فغير مجعول للقضاء، ومنطوق هذه: « … يعلم شيئاً … »، لكن التنافي هو بالإطلاق والتقييد، فالمنطوق مقيد والمفهوم مطلق، وحينئذ يتقدم خبر أبي خديجة لأنه منطوق أولاً(19) ولأنه مقيد ثانياً ، فتكون النتيجة: « … قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا » وهو يعلم شيئاً من قضايانا….
وقد يقال: إن رواية أبي خديجة مطلقة كذلك، لأنها تدلّ على نفوذ حكم من « يعلم شيئاً » سواء كان « راوياً » و « ناظراً في الحلال والحرام » أو لا، فلا يتم الجمع بينهما بما ذكر، إلا أن يقال: بأن الميزان هو : « العلم » كما في رواية « القضاة أربعة » وأن « الرواية » و « النظر » ليس لهما موضوعية، بل اعتبرا كمقدّمة وطريق لحصول « العلم ». وبعبارة أخرى: التقييد بـ « الرواية » و « النظر » محمول على الغلبة لا الإحتراز، لأنه ظاهر في الطريقّية لا الموضوعية حتى يكون وصفاً يحترز به عن الظن ليسقط حكم غير المجتهد عن درجة الإعتبار، ويؤيد الحمل المذكور أنه يبعد جدّاً أن لا ينفذ حكم من « عرف الأحكام » ولكن لم يرو شيئاً من حديثهم، فلو كان التقييد بـ « الرواية » احترازيّاً كان المعنى: من لم يرو شيئاً من أحاديثنا فلا ترجعوا إليه وإن كان عارفاً بأحكامنا وعالماً بشيء من قضايانا.
ويؤيّد ما ذكرنا: أن بعض الرواة كانوا يتعلّمون الحكم من الإمام عليه السلام في الواقعة ثم يقضون به، كما في رواية عبد الله بن طلحة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « سألته عن رجل دخل على امرأة….
فقال أبو عبد الله عليه السلام: إقض على هذا كما وصفت لك.
فقال: يضمن مواليه… »(20).
وفي أخرى: « عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لمّا ولّى أمير المؤمنين عليه السلام شريحاً القضاء اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه »(21) .
وحينئذ ، فمن « يعلم شيئاً… » سواء عن اجتهاد أو تقليد مجعول من قبل الإمام عليه السلام حاكماً، ويكون حكمه نافذاً، وحاصل ذلك نفوذ حكم القاضي العالم بالأحكام تقليداً ، فضلاً عن المجتهد المتجزّي.
إلاّ أن يجمع بين الخبرين بنحو آخر فيقال: إنّ المعتبرة تشترط : « العلم بشيء من قضاياهم » أي الأحكام وكيفيّة القضاء بين المتخاصمين، والمقبولة تشترط « الرواية » و « النظر في الحلال والحرام » و « معرفة الأحكام » أي: الإجتهاد، فيكون الشرط المعتبر: الإجتهاد مع العلم بشيء من قضاياهم ، جمعاً بين الخبرين بناء على ظهورهما في المعنيين المذكورين، فلا ينفذ حكم المتجزّي فضلاً عن المقلّد.
هذا كلّه، بناء على ظهور معتبرة أبي خديجة في جعل منصب القضاء لمن « يعلم شيئاً » من قضاياهم عليهم السلام كما هو الصحيح، خلافاً لبعض أعلام المعصر حيث قال: « إن الرواية غير ناظرة إلى نصب القاضي ابتداءاً، وذلك لأن قوله عليه السلام: فإني قد جعلته قاضياً، متفرّع على قوله عليه السلام: فاجعلوه بينكم، وهو القاضي المجعول من قبل المتخاصمين. فالنتيجة: أن المستفاد منها أن من جعله المتخاصمان بينهما حكماً هو الذي جعله الإمام عليه السلام قاضياً، فلا دلالة فيها على نصب القاضي ابتداءاً… »(22).
أقول: ما ذكره يخالف ظاهر الرواية، لأن قوله عليه السلام « فإني قد جعلته … » تعليل، أي: لا ترجعوا إلى من ليس منكم، بل ارجعوا إلى من جعلته قاضياً منكم وهو الذي ينفذ فيكم حكمه وترضون به، أو أن المعنى: إذا تراضيتم بحكم رجل منكم فإني قد جعلت ذلك الرجل قاضياً. فالحاصل: إن جعل الإمام عليه السلام هو علّة نفوذ حكمه وجواز الرجوع إليه.
هذا، والعجب من صاحب ( الجواهر ) قدّس سرّه قوله بعد استظهار إرادة الأعم من المجتهد من معتبرة أبي خديجة: « نعم، قد يقال بتوقف صحّة ذلك على الإذن منهم عليهم السلام… » مع أن نفس هذه الرواية دالّة على الإذن.
ثم قال: « ولو سلّم عدم ما يدل على الإذن ، فليس في شيء من النصوص ما يدل على عدم جواز الإذن لهم في ذلك ».
وفيه: إن مجرّد عدم وجود نص على عدم الإذن لا أثر له، وقد ذكرنا أن الأصل عدم نفوذ حكم أحد في حق أحد، فالنفوذ محتاج إلى الدليل ، وعدم ما يدل على عدم الإذن ليس بدليل.
قال: « بل عموم ولايتهم تقتضي ذلك » ولولا كلمة « بل » لارتفع الإشكال ودلّ الكلام صدراً وذيلاً على أن عموم ولايتهم ـ مع فرض عدم الدليل على الإذن ـ دليل، وبه يخرج عن مقتضى الأصل المذكور، لكن ظاهر العبارة أن عموم الولاية دليل آخر.
قال: « بل قد يدّعى أن الموجودين في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ممن أمر بالترافع إليهم قاصرون عن مرتبة الإجتهاد، وإنما يقضون بين الناس بما سمعوه من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ».
أقول: وهذا يتمّ بناء على عدم الفرق بين زمن الحضور وزمن الغيبة. نعم، إذا كان المناط تعلّم الحكم ـ سواء من السماع منهم عليهم السلام أو الإستنباط من الأدلّة أو الأخذ من المجتهد ـ لم يفرق بين الزمنين.
ثم قال : « ويمكن بناء ذلك بل لعلّه الظاهر على إرادة النصب العام … »(23) .
أقول: يعني أن مقتضى « فإني قد جعلته حاكماً » و « فإنهم حجّتي عليكم » أن للمجتهد أن ينصب العامي ، لأن له ما للإمام عليه السلام فيكون للعامي ما للمجتهد… قلت: لكن هذا المعنى يستفاد من الخبر الثاني منهما فقط.
هذا ما يتعلق بالمسألة حسب الروايات الواردة في الباب، وبقي الإجماع:
قال في ( الجواهر ): « وأمّا دعوى الإجماع التي سمعتها فلم أتحققها، بل لعلّ المحقق عندنا خلافها، خصوصاً بعد أن حكى في التنقيح عن المبسوط في المسألة أقوالاً ثلاثة … »(24).
أقول: هذه عبارة الشيخ في شرائط القضاء من ( المبسوط ):
« لا ينعقد لأحد إلا بثلاث شرائط: أن يكون من أهل العلم والعدالة والكمال. وعند قوم ـ بدل كونه عالماً ـ أن يكون من أهل الإجتهاد، ولا يكون عالماً حتى يكون عارفاً بالكتاب والسنّة والإجماع ولسان العرب وعندهم القياس . وفي الناس من أجاز أن يكون القاضي عاميّاً… والأوّل هو الصحيح(25) »(26).
وقال في ( الخلاف ): « لا يجوز أن يتولىّ القضاء إلاّ من كان عارفاً بجميع ما ولي، ولا يجوز أن يشذّ عنه شيء من ذلك ولا يجوز أن يقلّد غيره ثم يقضي به.
وقال الشافعي: ينبغي أن يكون من أهل الإجتهاد ولا يكون عاميّا ولا يجب أن يكون عالماً بجميع ما وليه. وقال في القديم مثل ما قلناه.
وقال أبو حنيفة: يجوز أن يكون جاهلاً بجميع ما وليه إذا كان ثقة ويستفتي الفقهاء ويحكم به. ووافقنا في العامي أنه لا يجوز أن يفتي.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضاً: تولية الولاية لمن لا يحسنها قبيحة في العقول ، بأدلّة ليس هذا موضع ذكرها بيّناها في غير موضع، وأيضاً : ما اعتبرناه مجمع على جواز توليته، وليس على ما قالوه دليل… »(27).
فالشيخ ـ قدّس سرّه ـ يدعي الإجماع على اشتراط الإجتهاد مرّتين.
فما نسب إليه في ( الجواهر ) عن ( التنقيح ) لا وجه له.
وقد ادّعى هذا الإجماع أيضاً جماعة منهم الشهيد الثاني قدّس سرّه(28) .
نعم، إن مثل هذا الإجماع ـ حيث يوجد على معقده أخبار ـ لا يعتمد عليه، إذ يحتمل أن تكون تلك الأخبار هي المدرك له(29)، فهي المرجع، وقد استظهرنا منها عدم الإشتراط .
هذا، ولا أقلّ من دلالة الإجماع وغيره على شهرة القول بالإشتراط بين الأصحاب، وذهاب المشهور إلى هذا القول ، يدلّ على وجود قرائن لديهم تمنع من انعقاد ظهور تلك الأدلّة في المعنى الذي استظهرناه منها، حتى ادّعوا الإجماع على الإشتراط، وهذا ما يمنعنا من الجزم بما استظهرناه، ويرجح القول باشتراط كونه مجتهداً مطلقاً أو في خصوص مسائل القضاء، على أن التصدّي للقضاء مع الجهل بالمسائل التي سيبتلي بها والأدلّة التي يحتاج إليها ، خلاف ما هو المرتكز في أذهان المتشرّعة.
وأما الجاهل العامي فلا يجوز له التصدّي قطعاً.
وهنا مسائل:
( الأولى ) هل للمجتهد أن ينصب مقلّده للقضاء ؟
قد يقال بالعدم، لعدم الدليل، ونصب المعصوم عليه السلام القاصر عن درجة الإجتهاد لا يقتضي جوازه للمجتهد، لأن له الولاية العظمى الثابتة له من الله تعالى(30).
وقد يقال بالجواز، لعموم أدلّة ولاية الفقيه(31) الدالة على أنّ كلّ ما ثبت للإمام عليه السلام فهو ثابت للمجتهد، ومن ذلك نصب القضاة، فله أن ينصب مقلده للقضاء بين الناس حسب فتاواه، أو استناداً إلى ولايته على النصب للقضاء خاصة، أو يقال: بأن المجتهد منصوب للقضاء ولنصب غيره له.
وتحقيق الكلام في هذه المسألة موكول إلى ما تقرّر في مبحث ولاية الفقيه .
وكيف كان، فإن فتوى المشهور باشتراط الإجتهاد في القاضي تمنعنا من الجزم بالوجه الثاني.
( الثانية ) قال بعض أعلام العصر: حكم القاضي في الشبهة الحكمية ـ وهي القضية التي يكون منشأ الترافع فيها الإختلاف في الفتوى، كما إذا تنازع الورثة في الأراضي، فادّعت الزوجة ذات الولد الإرث منها، وادّعى الآخرون حرمانها، فتحاكما إلى القاضي ـ إرشادي لا مولوي، لأنه حينئذ تنجيز للمتنجز وهو تحصيل للحاصل وهو محال، فلا يتصور الحكم في الشبهات الحكميّة. وعليه، يكون المراد من رواية عمر بن حنظلة هو الفتوى لا الحكم، وحينئذ، تبقى رواية أبي خديجة بلا معارض(32).
وفيه: أوّلاً: إنه لا ظهور لرواية عمر بن حنظلة في الشبهة الحكميّة، بل النزاع في « الدين » من حيث الشبهة الموضوعية أكثر وأظهر، وكذا « الميراث » فقد يترافع حوله بنحو الشبهة الموضوعيّة.
وثانياً: إن الحكم يعتبر فيه النفوذ عند العقلاء، فهو أمر اعتباري ينتزع منه وجوب الامتثال، فالفرق بين « الفتوى » و « الحكم » ظاهر ، وليست المقبولة ظاهرة في الأولى.
( الثالثة ) ما المراد من معرفة الأحكام ، والعلم المعتبر في القاضي ؟
إن كان المراد من « عرف أحكامنا » هو معرفة الأحكام الواقعيّة ، كان المعنى نفوذ حكم من علم بأن حكمه هذا هو حكم الله الواقعي فقط، ومع الشك فلايجوز الرجوع إليه ولا ينفذ حكمه، لأنها شبهة مصداقية، كما إذا قال: إقتد بالعادل، فشك في عدالة زيد، فلا يجوز له الائتمام به.
وإن كان المراد : كون الخصمين عالمين بأنه عارف بأحكامهم عليهم السلام ، فما هو الحكم في صورة اختلافهما في معرفة هذه الجهة فيه ؟ وبعبارة أخرى : هل ينفذ حكم الحاكم في القضية مع العلم بالخلاف ؟
أقول: لم تلحظ الخصوصيات في « الرجل » العالم بشيء من قضايا الأئمة عليهم السلام ، والعارف بأحكامهم، من حيث أنه عالم بالحكم الواقعي أو أنه عالم حسب علمه هو أو علم المتخاصمين… فإن هذه الدقائق لم تكن ملحوظة عند الأمر بالرجوع إلى هكذا عالم، بل يكفي كون الرجل عالماً مشاراً إليه بالعلم، وعلى هذا عمل الناس في هذه الأزمنة أيضاً ، وليس معنى الروايات هذه مجملاً عندهم.
وأما في موارد العلم بالخلاف فنقول: إن حكم الحاكم ملزم ونافذ، إلاّ في صورة كون أحد الطرفين عالماً بالخلاف، فلو كان المدّعي يعلم بأن المال الذي يدّعي تملّكه ليس له ـ بل لخصمه ـ لكن أحضر لدى القاضي شاهدين فحكم بأنه له، فإن هذا الحكم لا يجوّز له التصرف في هذا المال، لأنه عالم بالخلاف وبكذب دعواه، وليس عدم نفوذ حكم القاضي حينئذ ردّاً لحكمه، بل إنه ردّ من المدّعي لدعواه هو وإقرار بكذبه فيها.
ولو علم المحكوم عليه بمخالفة الحكم للواقع،كما إذا علمت المرأة بأنها ليست بزوجة لزيد، لكن حكم القاضي بزوجيّتها له، فلا ينفذ هذا الحكم ـ حتى لو قيل بنفوذ الحكم مع العلم بالخلاف فيما إذا كان المال مورد الترافع ـ فلا يجوز لزيد وطؤها، وعلى المرأة أن لا تمكّنه من نفسها ما أمكن، لأن حكم الحاكم ليس محلّلاً للحرام.
فالحاصل: إن حكم الحاكم لا يغيّر الواقع عمّا هو عليه فيما إذا خالفه.
(1) وسائل الشيعة 18 : 11.
(2) البحث في هذا الشرط في جهات نذكرها باختصار، ونقتصر على الأقوال وبيان الخلاف فيها:
الجهة الاولى: إنه لا ريب ولا خلاف في اشتراط العلم في القاضي، فلا ينعقد القضاء للجاهل ولا ينفذ حكمه، ويدل عليه ـ قبل الإجماع ـ الكتاب والنصوص المستفيضة بل المتواترة من السنّة الشريفة، وقد عقد في الوسائل « باب عدم جواز القضاء والإفتاء بغير علم بورود الحكم عن المعصومين عليهم السلام » . ومن أخباره ما ذكر في المتن، وما رواه أبو عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام قال: « من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه » وسائل الشيعة 27 : 20.
والثانية: قال أكثر الأصحاب بأنه يشترط في هذا العالم أن يكون مستقلاً بأهليّة الفتوى ، قال المحقق: « ولا ينعقد لغير العالم المستقل لأهلية الفتوى ولا يكفيه فتوى العلماء، ولابدّ أن يكون عالماً بجميع ما وليه » شرائع الإسلام 4 : 67.
وقال العلامة قي القواعد: « فلا ينعقد قضاء.. الجاهل بالأحكام ولا غير المستقل بشرائط الفتوى، ولا يكتفى بفتوى العلماء، ويجب أن يكون عالماً بجميع ما وليه » قواعد الأحكام 3 : 421.
وفي المسالك 13 : 328: « والمراد بالعالم هنا المجتهد في الأحكام الشرعيّة، وعلى اشتراط ذلك في القاضي إجماع علمائنا، ولا فرق بين حالة الإختيار والإضطرار، ولا فرق فيمن نقص عن مرتبته بين المطّلع على فتوى الفقهاء وغيره، والمراد بكونه عالماً بجميع ما وليه كونه مجتهداً مطلقاً، فلا يكفي اجتهاده في بعض الأحكام دون بعض على القول بتجزي الإجتهاد».
وصريح كلام المسالك دعوى الإجماع على اشتراط الإجتهاد المطلق، وقد حكي الإجماع على اشتراط الإجتهاد عن جماعة ، وبه صرّح في الرياض، ومن قبلهم الشيخ قدّس سرّه وستأتي عبارته في المتن. ومن هنا يظهر أن ما ذكره الشيخ في المبسوط بقوله: « وفي الناس من أجاز أن يكون القاضي عامياً ويستفتي العلماء ويقضي به » المبسوط 8 : 101 ليس قولاً لأحد من قدماء أصحابنا.
نعم، عن المحقق الأردبيلي ( مجمع الفائدة والبرهان 12 : 18 ) نفي الشك عن عدم نفوذ قضاء غير المجتهد مع وجود المجتهد، واستشكل المحقق القمي في ( جامع الشتات 2 : 68 ـ حجري ) الحكم باشتراط الإجتهاد على الإطلاق، ولم يستبعد جواز المرافعة للعالم العادل المطلع على جميع المسائل المتعلقة بالواقعة تقليداً في حال الإضطرار، وفي الجواهر: « بل قد يقال: إن المستفاد من الكتاب والسنّة صحة الحكم بالحق والعدل والقسط من كلّ مؤمن … ».
والثالثة : هل يشترط في المجتهد أن يكون مجتهداً مطلقاً أم يكفي التجزّي ؟ فيه أقوال ، فالأوّل : ما عرفته من العبارات المزبورة في الجهة الثانية من اشتراط كونه مجتهداً مطلقاً، كما قد عرفت دعوى الإجماع عليه في المسالك. والثاني: جواز المرافعة للمجتهد المتجزي مطلقاً ، وإليه ذهب صاحب المستند ( 17 : 39 ) تبعاً لغيره. والثالث: التفصيل بين صورة التمكن من المرافعة عند المجتهد المطلق وصورة فقده، وهو مختار صاحب الكفاية حيث قال: « ولا يبعد القول بالإكتفاء بالتجزي عند فقد المجتهد المطلق » كفاية الأحكام 2 : 662.
(3) وسائل الشيعة 27 : 13/5 . أبواب صفات القاضي ، الباب 1.
(4) ملاذ الأخيار 10 : 13.
(5) مسالك الأفهام 13 : 335.
(6) في الكافي 7 : 412/4 لم يروه عن أحمد بن محمد بن خالد.
(7) الفهرست 141 : 337 .
(8) رجال النجاشي 188 : 501.
(9) يذكر العلامة في المختلف 3 : 212 ، فيه قول.
(10) منهج المقال : 157 .
(11) ما ذكره السيد الاستاذ دام ظله الشريف هو أحد الأقوال في المسألة، وقد ذكر جدّنا العلامة المامقاني قدّس سرّه فيها سبعة أقوال في مقباس الهداية في علم الدراية 2 : 111 ـ 117 . فليراجع.
أقول: بل ينبغي أن لا يرتاب في وثاقة الرجل، لأن المنقول عن الشيخ قدّس سرّه توثيقه في موضع آخر، فإذن، يتعارض قولاه ويتساقطان، ويبقى توثيق النجاشي قدّس سرّه بلا معارض. هذا، مضافاً إلى ما ذكره علماء الرجال في محلّه من أن للشيخ اشتباهات، والنجاشي لم يشاهد له اشتباه، وقد كرّر توثيقه .
(12) وسائل الشيعة 18 : 101.
(13) سورة النساء 4 : 60.
(14) وسائل الشيعة 27 : 136/1 . أبواب صفات القاضي ، الباب 11.
(15) مسالك الأفهام 13 : 335.
(16) رجال الشيخ 336 : 5007.
(17) رجال النجاشي 159 : 421.
(18) هي في الوسائل : « محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة … » قال : « ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسن بن شمون عن محمد بن عيسى. وبإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن محمد ابن عيسى نحوه » فطرقها تنتهي إلى « داود بن الحصين » وقد وثقه النجاشي، واستظهر في تنقيح المقال ( تنقيح المقال 1 : 408 ) من عبارته كونه إمامياً اثني عشرياً، لأن من عادة النجاشي التعرض لمذهب من كان غير اثني عشري، فيعارض قوله قول الشيخ بأنه واقفي فيتقدم عليه، لأنه أضبط من الشيخ في علم الرجال . هذا من ناحية داود بن الحصين . وإنما ضعّف الرواية من ضعّفها من جهة « عمر بن حنظلة » نفسه ، لأن أصحاب الرجال لم ينصوا فيه بجرح ولا تعديل، لكن عن الشهيد الثاني أنه قال: « لكن أمره عندي سهل، لأني حقّقت توثيقه من محل آخر وإن كانوا قد أهملوه » ( الرعاية : 131 ) وقد أشار بذلك إلى ما روي في الكافي في باب وقت الصّلاة عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عن يزيد ابن خليفة قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام : إن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت . فقال أبو عبد الله عليه السلام : إذا لا يكذب علينا »، لكن أشكل في سندها بأن راويها « يزيد بن خليفة » ولم تثبت وثاقته ، وأجاب في تنقيح المقال ـ مع تصريحه بعدم ثبوت وثاقته في ترجمته ـ بتلقي الأصحاب لها بالقبول في بابها حيث لم يردها أحد منهم، فتدبر .
وقد ذكر رواية أخرى في توثيق عمر بن حنظلة، وهي في التهذيب في باب العمل في ليلة الجمعة ويومها ، عن الحسين بن سعيد عن فضالة عن أبان عن إسماعيل الجعفي عن عمر بن حنظلة قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام : القنوت يوم الجمعة . فقال : أنت رسولي إليهم في هذا إذا صلّيتم . الحديث ( تهذيب الأحكام 3 : 16/57 ) قلت : لكن الراوي لها هو ابن حنظلة نفسه .
وكيف كان، فإن وثاقة الرجل محلّ تأمل، فالعمدة في اعتبار روايته هذه بالخصوص أمران : أحدهما : ما ذكر في المتن من تلقي الأصحاب إيّاها بالقبول حتى اشتهرت بالمقبولة، بناء على اعتبار ما كان بهذه المثابة من الأخبار . والثاني : كون صفوان بن يحيى في سندها قبل داود بن الحصين، وهو ممن نقل إجماع العصابة على تصحيح ما يصح عنه، بناء على تمامية الكبرى في محلّها .
(19) أي بناء على أن المنطوق أظهر من المفهوم، وأما بناء على عدم التفاوت بينهما من هذه الجهة فلا وجه لهذا الوجه، وتفصيل المطلب في الاصول.
(20) وسائل الشيعة 29 : 62/2 . أبواب القصاص ، الباب 23.
(21) وسائل الشيعة 27 : 16/1 . أبواب صفات القاضي ، الباب 3.
(22) مباني تكملة المنهاج 1 : 8.
(23) جواهر الكلام 40 : 18.
(24) جواهر الكلام 40 : 19.
(25) المبسوط في فقه الإمامية 8 : 99 ـ 101.
(26) قد ذكرنا أن هذا القول ليس لأحد من أصحابنا الإماميّة، ويتضح من عبارته في الخلاف أن مراده من « وفي الناس من أجاز » هو « أبو حنيفة » ويؤكد ذلك شيوع التعبير عن العامة أو علمائهم بـ « الناس » في الأخبار وكلمات الفقهاء.
(27) كتاب الخلاف 6 : 207 / المسألة 1.
(28) مسالك الأفهام 13 : 328.
(29) ويقويّه قول الشيخ « دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم » هذا مضافاً إلى أنه إجماع منقول، وقد تقرّر عدم حجيته، مع أن في خصوص إجماعات الشيخ بحثاً ذكر في محلّه.
(30) وذلك هو المخرج عن الأصل، لأن موضوع أدلة الإذن هو « العالم » و « الراوي للحديث » ونحو ذلك، والمقلد العامي لا يصدق عليه شيء من هذه العناوين، ولأن الأصل عدم تأثير نصب المجتهد. فإن قيل: فقد نصب المعصوم عليه السلام من كان قاصراً عن مرتبة الاجتهاد.
قلنا: إن الكلام إنما هو في زمان الغيبة، وأما إذا نصب الإمام عليه السلام في زمان حضوره القاضي غير المجتهد فإن فعله عليه السلام حق لأنه معصوم وله الولاية الكبرى.
(31) كالتوقيع الشريف: « وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم » و « مجاري الامور والأحكام على أيدي العلماء بالله الامناء على حلاله وحرامه » وسائل الشيعة 27 : 14/9 . أبواب صفات القاضي ، الباب 11.
و « اللهم ارحم خلفائي. قيل: ومن خلفاؤك يا رسول الله ؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنتي » وسائل الشيعة 27 : 91/50 . أبواب صفات القاضي ، الباب 8.
وهذه الأدلّة فيها بحث سنداً ودلالة، وقد أجاب المانعون عن الاستدلال بها في المقام صغرى وكبرى، فليراجع. واكتفى المحقق النراقي في المستند بأن قال: « ربما يحكى عن بعض الفضلاء المعاصرين جوازه ، ولم أتحققه ولم أره في كتابه، ولا أرى له وجهاً أصلاً… وتوهم : أن عموم الولاية فيما للإمام فيه الولاية ثابت للمجتهد ومنها الإذن الخاص في القضاء، مدفوع ، بأن للإمام الإذن للأهل والقابل، فالجواز للمجتهد أيضاً يكون مقصوراً على من له الأهلية ، وهي لغير المجتهد غير ثابتة، ومن ثبت له لا يحتاج إلى النائب لثبوت الإذن له عن المنوب عنه… » مستند الشيعة 17 : 26.
(32) جامع المدارك 6 : 6.