المسألة الثالثة
( هل تسمع الدعوى في الحدود مجرّدة عن البيّنة ؟ )
قال المحقق: « لا تسمع الدعوى في الحدود مجردة عن البينة »(1).
أقول: لا خلاف في عدم سماع الدعوى في الحدود حتى يقيم المدعي البينة المعينة شرعاً في كلّ مورد، لأن الحدود حق الله تعالى وقد اشترط في ترتيب الأثر على الدعوى فيها وجود البينة، بل إنه تعالى يحب عدم تعقيب ما يوجبها وترك إثباتها، بل أمر سبحانه بدرء الحدود بالشبهات(2).
قال: « فلا يتوجّه اليمين على المنكر ».
وأما في حقّ الآدمي، فتسمع الدعوى المجرّدة عن البيّنة ويستحلف المنكر، لأن اليمين أحد طريقي إثبات حق الآدمي، ولذا يسقط الحق برضا صاحبه بيمين خصمه.
قال: « نعم، لو قذفه بالزنا ولا بيّنة فادّعاه عليه، قال في المبسوط: جاز أن يحلف ليثبت الحدّ على القاذف، وفيه إشكال، إذ لا يمين في الحدّ ».
أقول: كان ما ذكرناه في خصوص الدعوى في حق الله تعالى كحدّ الزنا وشرب الخمر، ولو اشتركت الدعوى بين الله وبين الآدمي كحدّ القذف كأن يقذفه بالزنا ولا بينة، فهل لليمين أثر في ثبوت الحدّ وعدمه أو لا ؟ الصحيح هو الثاني، لإطلاق النصوص الواردة في المقام والدالّة على أنه « لا يمين في حدّ »:
1 ) عن البزنطي عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « أتى رجل أمير المؤمنين عليه السلام برجل فقال: هذا قذفني، ولم تكن له بينة. فقال: يا أمير المؤمنين استحلفه، فقال: لا يمين في حدّ ولا قصاص في عظم »(3).
وهذا الخبر ظاهر في أن الرجل قد ظنّ أن للقاذف الذي لا بينة له ، أن يستحلف المقذوف لكونه منكراً كسائر المرافعات، فقال الإمام عليه السلام : إن اليمين لا تؤثر لا في إثباته ولا في نفيه.
2 ) عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث قال: « لا يستحلف صاحب الحدّ »(4).
والظاهر أن المراد من « صاحب الحدّ » هو من يجب إجراء الحدّ عليه ، ويحتمل أن يكون المراد: إن الذي يريد إجراء الحدّ ـ وهو الإمام ـ لا يستحلف.
3 ) عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام: إن رجلاً استعدى علياً عليه السلام على رجل فقال: إنه افترى علىّ، فقال علي عليه السلام للرجل: أفعلت ما فعلت ؟ فقال: لا، ثم قال علي عليه السلام: ألك بينة ؟ قال: فقال: ما لي بينة فأحلفه لي. قال علي عليه السلام: « ما عليه يمين »(5) .
خلافاً للشيخ قدّس سرّه في ( المبسوط )(6) إذ قال: « جاز أن يحلف ليثبت الحدّ على القاذف » أي: ترجيحاً لحق الآدمي على حق الله عزّ وجل ، ومن الحالف حينئذ ؟
في العبارة احتمالان:
أحدهما: أن يكون المراد أن يقذفه بالزنا ولا بينة، فيدّعي المقذوف عليه ذلك ، فينكر ويمتنع عن اليمين ويردّها على المدعي، فيجوز له أن يحلف اليمين المردودة ليثبت الحدّ على القاذف.
والثاني: أن يكون المراد قذفه بالزنا بأن يقول له: يا زاني، ثم لما أريد إجراء حدّ القذف عليه ادّعى الزنا على المقذوف ولكن لا بينة له على ذلك، فيجوز أن يحلّف المقذوف على عدم الزنا ليثبت الحدّ على القاذف، فإن لم يحلف لم يثبت الحدّ.
وكيف كان، فما ذهب إليه ينافي تلك النصوص الدالّة على أنه لا يحلف لا في إثبات الحدّ ولا في نفيه، فإن كان للقاذف بينة على الزنا سقط الحدّ وإلا ثبت، قال الله تعالى: ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الُْمحْصَنَاتِ . . . ) إلى آخر الآية(7).
وليس حق الآدمي في هذه المسألة منفصلاً عن حق الله تعالى ليرجّح فيها حقّه على حق الله، بل الحقّان كلاهما واردان على الحدّ، بخلاف مسألة السرقة حيث الغرم والقطع أمران مختلفان، ولذا يمكن إثبات الغرم دون القطع في بعض صورها، كما سيأتي أيضاً .
(1) وسائل الشيعة 28 : 46 . أبواب مقدمات الحدود ، الباب 24.
(2) شرائع الإسلام 4 : 90.
(3) وسائل الشيعة 28 : 46/1 . أبواب مقدمات الحدود ، الباب 24 . وهو مرسل، وفي طريقه « سهل بن زياد » وقال الشيخ الحر قدّس سرّه بعده « محمد بن الحسن بإسناده عن أحمد بن محمد عن محمد بن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام مثله » قال صاحب الجواهر قدّس سرّه: وفي المرسل الذي هو كالصحيح بابن أبي عمير في رواية التهذيب بل وكذا في رواية الكافي المنجبر مع ذلك كلّه بالعمل… ومراده من رواية التهذيب هو الثاني ومن رواية الكافي هو الأوّل، لأن ابن أبي عمير لا يرسل إلاّ عن ثقة وأحمد بن محمد بن أبي نصر ـ وهو البزنطي ـ من أصحاب الاجماع، وأن الأمر في « سهل » سهل عنده.
(4) وسائل الشيعة 28 : 46/2 . أبواب مقدمات الحدود الباب 24 ، وهو معتبر.
(5) وسائل الشيعة 28 : 46/3 . أبواب مقدمات الحدود ، الباب 24 ، فيه « غياث بن كلوب » وهو مجهول .
(6) المبسوط في فقه الإماميّة 8 : 215 ـ 216.
(7) سورة النور 24 : 4.