3 ـ الأحكام المترتبة على سكوت المدّعى عليه:
قال المحقق: « وأما السّكوت، فإن اعتمده ألزم بالجواب، فإن عاند حبس حتى يبين، وقيل: يجبر حتى يجيب، وقيل… والأوّل مروي… »(1).
أقول: إن سكت المدعى عليه أو قال: لا أدري، فتارة : يكون سكوته لا عن عناد ، بل من جهة خوف أو دهشة أو تفكير في الأمر والجواب أو نحو ذلك، فحينئذ يطمئنه الحاكم ويصبر حتى يزول خوفه، وتارة : يكون سكوته عن عناد ولجاجة، فهنا ثلاثة أقوال ذكرها المحقق قدّس سرّه:
الأوّل: الحبس حتى يبين الجواب.
الثاني: إجباره على الجواب بالضرب ونحوه.
الثالث: أن يقول له الحاكم: إما أجبت وإما جعلتك ناكلاً ورددت اليمين على المدعي، فإن أصرّ على السكوت ردّ الحاكم اليمين على المدعي.
وهل هذا البحث والخلاف قبل إقامة المدعي البينة أو بعدها ؟
يمكن تصوير ثلاث صور لهذا المقام.
الأولى: أن يقيم المدعي دعواه عند الحاكم، فيسأل الحاكم المدعى عليه عن جوابه فيسكت.
والثانية: أن يقيم الدعوى ويطالبه الحاكم بإقامة بينة، ثم يسأل المدعى عليه فيسكت.
والثالثة: أن يقيم الدعوى ولا بينة عنده عليها، فيسكت المدّعى عليه عن الجواب.
لا ريب في عدم كون الصورة الأولى محلّ الخلاف والأقوال.
وأما في الصورة الثانية، فإن علم الحاكم بعدالة الشاهدين ، فإنه بعد سكوت المدّعى عليه يعمل بعلمه ويحكم ويرتفع النزاع.
فظهر أن مورد الأقوال هو الصورة الثالثة، والحق: أن جواب المدعى عليه ليس حقاً للمدّعي، وأنه لا دليل على وجوبه عليه شرعاً، نعم، هو مقدّمة للعلم بالحال وفصل النزاع.
ولننظر فيما يمكن أن يستدلّ به للأقوال في هذا المقام، فنقول:
الظاهر أنه لا نصّ في المسألة بالخصوص، وقول المحقق والعلاّمة قدس سرّهما بالنسبة إلى القول الأوّل: « والأوّل مروي » يمكن أن يكون إشارة إلى النبوي المشهور: « ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته »(2) الذي ذكروا انجبار ضعفه بعمل الأصحاب. وقد أجيب: بأن الظاهر من « الواجد » هو من وجد المال لا ما يعم استحقاق جواب الدعوى ، ويشهد بذلك أن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كان يحبس المدين والغريم كما في الأخبار.
أقول: وفي الاستدلال به والجواب عنه نظر.
أما في الاستدلال، فإنّه يتوقف على ثبوت كون الجواب واجباً على المدّعى عليه، إما من جهة كونه حقاً للمدعي وإما من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحينئذ، فلو شككنا في عقاب من لم يعمل بهذا الواجب أمكن الاستدلال بالحديث، وأما مع عدم ثبوت وجوب الجواب عليه فلا يجوز حبسه، كما لا يجوز حبس من يشك في كونه مديناً… وقد تقدم أن في وجوب الجواب على المدعى عليه مطلقاً تأملاً وإشكالاً، اللهم إلا أن يكون اجماع، فسقط الإستدلال.
وأمّا ي الجواب ، فمن جهة أنه لو فرض ظهور لفظ « الواجد » فيما ذكر، بل حتى لو صرّح بالمال في الكلام، فلا مانع من دعوى إلغاء خصوصيّة المال هنا بمناسبة الحكم والموضوع، فيكون معنى الحديث: لىّ الواجد عن أداء ما للناس ـ مالاً كان أو حقاً ـ يحلّ عقوبته وعرضه.
واستدل للقول الثاني: بأن إجباره على الجواب بالضرب هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفيه: إن هذا أيضاً متوقف على ثبوت وجوب الجواب عليه، وإلا فإن أدلّة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تثبت موضوع المعروف والمنكر…
واستدل للقول الثالث: بعموم الروايات الواردة في باب « أن المدعي إذا لم يكن له بينة فله استحلاف المنكر، فإن ردّ اليمين على المدعي فحلف ثبتت الدعوى وإن نكل بطلت » كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام : « في الرجل يدعي ولا بينة له. قال: يستحلفه، فإن ردّ اليمين على صاحب الحق فلم يحلف فلا حق له »(3).
وبالرواية الواردة في الأخرس(4) ، إذ المستفاد منها أن الإنكار غير لازم ، بل يكفي لثبوت حق المدعي امتناع المدعى عليه من اليمين، ولكن الاستدلال بها يتوقف على عدم مجيء شبهة القياس.
وبرواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله(5).
فالأظهر هو القول الثالث، وإن قال بالأول جماعة كبيرة من الأصحاب.
وقد يستدلّ للمختار بأن السكوت لا يخلو عن أحد أمرين، لأن المدّعى عليه إن كان يعلم بصدق المدعي فهو مقرّ وعليه دفع ما يدّعيه، وإن كان ينكر ذلك ، وجب عليه ردّ اليمين على المدّعي، وحيث امتنع من ذلك بسكوته، فإن الحاكم يردّ اليمين على المدعي، فإن حلف ثبتت دعواه وإلا سقطت، فالحاصل: أنه مع السكوت يحكم عليه بدفع الحق.
وفيه: إن الإقرار أو الإنكار لابدّ من إبرازه حتى يترتّب عليه الأثر، والعلم الإجمالي المذكور غير كاف لترتّب أثر أحد الحالين.
وقد يعترض: بأنه لو كان السكوت في حكم النكول ـ كما تمسّك لذلك بالروايات العامّة ـ فيردّ اليمين على المدعي، كان اللاّزم أن يكون مجرّد عدم جواب الصغير والمجنون والغائب والميت موضوعاً لجواز الردّ على المدعي.
وفيه: إنه قياس مع الفارق.
وأما رأي صاحب ( الجواهر )(6) قدّس سرّه ، فهو بقاء النزاع على حاله، فيكون بحكم الدعوى على الميت بلا بينة.
وفيه: إنه مشكل جدّاً، فإنه يؤدي إلى عدم ثبوت دعوى أبداً، ولا ريب في بطلان نسبة هذا الحكم إلى الشارع، وعليه، فلا مناص من سماع الدعوى، ومع سكوت المدّعى عليه يحلف المدعي بمجرد ذلك أو بعد ردّ الحاكم اليمين عليه، وإن كان الثاني هو الأحوط، فإن لم يحلف سقطت الدعوى.
بل ربما يكون ما ذكرناه هو طريق فصل النزاع حتى في صورة الحبس أو الضرب، لأنه قد لا يجيب المدعى عليه بعدهما ويكون المرجع ما ذكرنا، وعليه، فهل يجب الحبس أو الضرب مع وجود هذا الطريق الذي يحتمل سلوكه بالتالي ؟ الحق : هو العدم.
قال المحقق قدّس سرّه: « ولو كان به آفة من طرش أو خرس توصل إلى معرفة جوابه بالإشارة المفيدة لليقين »(7).
أقول: هذا إنْ لم نقل بأن إشارة الأخرس تقوم مقام لفظ المتكلم الذي يكتفى بالظن بالمراد منه، فلا حاجة إلى مترجم لتحصيل اليقين بكونه مقرّاً أو منكراً.
قال: « ولو استغلقت إشارته بحيث يحتاج إلى المترجم لم يكف الواحد… ».
أقول: إن القول بافتقاره إلى مترجمين عدلين مبني على أن ذلك من قبيل الشهادة، وأما بناءاً على كونه من باب الرجوع إلى أهل الخبرة في فهم اللغات مثلاً فلا يعتبر التعدد.
(1) شرائع الإسلام 4 : 85.
(2) وسائل الشيعة 18 : 333/4 . أبواب الدين ، الباب 8.
(3) وسائل الشيعة 27 : 241/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 7.
(4) وسائل الشيعة 27 : 302/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 33.
(5) وسائل الشيعة 27 : 236/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 4.
(6) جواهر الكلام 40 : 211.
(7) شرائع الإسلام 4 : 86.