المسألة الثالثة
( حكم ما لو ادّعى الوقفية عليه وعلى أولاده بعده )
قال المحقق قدّس سرّه: « إذا ادّعى الوقفية عليه وعلى أولاده بعده وحلف مع شاهده، ثبتت الدعوى ، ولا يلزم الأولاد بعد انقراضه يمين مستأنفة »(1).
أقول: هذا مذهب المحقق وجماعة، وفي ( المسالك )(2) بنى المسألة على أنه إن كان الأولاد يتلقّون الدار مثلاً من الواقف فيحلفون، وإن كان من البطن الأوّل فلا، ووجه ما ذكره المحقق قدّس سرّه قوله: « لأن الثبوت الأوّل أغنى عن تجديده » يعني: إن ثبوت الوقفية في حق البطن الأوّل يغني عن إثباته في حق البطن الثاني.
وفي ( الجواهر ): « لكن قد عرفت أن فيه منعاً واضحاً، ضرورة كونه كذلك إذا كان في مال لا منازع لهم فيه، لا في مثل الفرض »(3).
قلت: وهذا هو الأولى.
قال المحقق: « وكذا إذا انقرضت البطون وصار إلى الفقراء أو المصالح »(4) .
أقول: أي لا يلزم أحد بالحلف حينئذ، بل يكتفى لثبوت الوقفية بحلف البطن الأوّل مع شهادة شاهدهم، لكن بناءاً على ما ذهب إليه صاحب ( الجواهر ) يجب على الفقراء مثلاً الحلف إن كانوا محصورين، وأما في حال عدم كونهم محصورين ، فالوقف باطل، لعدم صحة اليمين من أحدهم، وقد احتمل هنا سقوط اليمين حينئذ، لكن ضعّفه في ( الجواهر )، وقال: بل مناف لظاهر الأدلّة.
هذا كلّه في وقف الترتيب.
قال المحقق: « أما لو ادّعى التشريك بينه وبين أولاده ، افتقر البطن الثاني إلى اليمين » . في (الجواهر): قطعاً بل لا خلاف أجده فيه، وقد بيّن المحقق وجه ذلك بقوله:
« لأن البطن الثاني بعد وجودها تعود كالموجودة وقت الدعوى » أي: لما تقرّر من أنهم جميعاً يتلقون الدار من الواقف هذا من جهة، ومن جهة أخرى، قد تقرّر عدم ثبوت حق أحد بيمين غيره.
وخالف السيد صاحب ( العروة ) قدّس سرّه فقال(5): الأقوى عدم الحاجة إلى الحلف ( قال ): لأن الطبقات المتأخرة وإن كانوا يتلقون من الواقف، إلا أن الوقف بهذه الكيفية أمر واحد مستمر، فإذا أثبت من الأوّل ثبت في حق الجميع.
وفيه: إنه ليس في المقام إلا إنشاء صيغة واحدة فيقول: وقفت لأولادي، إلاّ أن هذا الإنشاء ينحلّ بعدد الأولاد في البطن الواحد، ولكنه حيث يوقف على الأولاد وأولادهم يقول: وقفت على أولادي وأولاد أولادي، وحينئذ، يكون شموله للطبقة المتأخرة متوقفاً على اليمين.
وعلى ما تقدّم ، قال المحقق: « فلو ادّعى اخوة ثلاثة أن الوقف عليهم وعلى أولادهم مشتركاً فحلفوا مع الشاهد » أي: وثبت ذلك بالنسبة إليهم « ثم صار لأحدهم ولد ، فقد صار الوقف أرباعاً » فهنا مسائل:
( الأولى ) هل يجب على الولد اليمين عند البلوغ ؟ نعم، فإنه لافرق بينه وبين الثلاثة، فكما أن أولئك ثبتت دعواهم واُعطوا حصصهم باليمين، فكذلك هذا الولد لا تثبت حصته ما لم يحلف.
ووجه ذلك ما تقدّم من كون التلقّي عن الواقف، فلو كان رابع الثلاثة من أوّل الأمر لوجب عليه اليمين مثلهم، فالآن كذلك، وعلى هذا فيوقف له ربع الدار حتى يكبر، ولذا قال المحقق: « ولا تثبت حصة هذا الولد ما لم يحلف، لأنه يتلقى الوقف عن الواقف، فهو كما لو كان موجوداً وقت الدعوى، ويوقف له الربع ».
( الثانية ) وإذ يوقف له الربع فعند من يوقف ؟ في ( المسالك ): « في تسليمه إلى وليّه أو يوضع في يد أمين وجهان … »(6).
توضيح الأوّل: إنه يجعل عند وليّه، لأن لولده سهماً بإقرار الثلاثة، وما للولد يكون عند وليه.
وتوضيح الثاني: إنه يجعل عند أمين من غير الثلاثة، لأنه قد لا يحلف عند كماله، ويحتمل أن يأبى وليّه عن ردّه، فإن كان الوارث منحصراً بالثلاثة، فمع إقرارهم بعدم استحقاق ثلاثة أرباع الدار من جهة، ومع نكول الولد عند الكمال أو نفيه الوقفية من جهة أخرى، يكون الربع للميت ، ومنه تقضى ديونه وتنجّز وصاياه، وإن لم يكن منحصراً كان الربع لسائر الورثة.
وقد اختار صاحب ( المسالك ) الوجه الثاني، حيث قال بعده(7): « وهذا هو الأصح ».
وفي ( الجواهر ): قلت بل يتوقف في أصل إيقافه لما عرفته في الوجه الأصح، وحينئذ يجري عليه حكم ما لم يثبت وقفه ويحرم الثلاثة منه، لاعترافهم بعدم استحقاقهم منه شيئاً، إلا أني لم أجد قائلاً بذلك، ولعلّه قوي للاحتياط في مثله …(8).
( الثالثة ) لو مات الولد قبل البلوغ، عادت الدار أثلاثاً، وبقي الكلام حول نماء سهمه من حين ولادته إلى موته. وحيث أن الثلاثة قد أقرّوا بكونه للولد فهم ملزمون بحرمانهم منه، فيصل النماء إلى ورثة الولد.
( الرابعة ) قال المحقق: « فإن كمل وحلف أخذ، وإن امتنع ، قال الشيخ يرجع ربعه على الإخوة، لأنهم أثبتوا أصل الوقف عليهم ما لم يحصل المزاحم، وبامتناعه جرى مجرى المعدوم. وفيه إشكال ، ينشأ من اعتراف الإخوة بعدم استحقاق الربع »(9).
أقول: ذهب الشيخ رحمه الله إلى ردّ الربع إلى الثلاثة، لإثباتهم أصل الوقف عليهم، والولد بنكوله عن اليمين يجري مجرى المعدوم ، فتبقى الدار بين الثلاثة كما كان الأمر قبل ولادة الولد. ولأن الواقف جعل الإخوة الثلاثة أصلاً في استحقاق الدار ثم أدخل من يتجدد في جملة المستحقين على سبيل العول، فإذا سقط الداخل فالقسمة باقية بحالها على الاصول كما كانت، نظير ما إذا مات إنسان وخلف ألفاً من الدراهم فجاء ثلاثة وادّعى كلّ واحد ألفاً على الميت وأقام شاهداً، فإن حلفوا معه فالألف بينهم، وإن حلف اثنان منهم فهو لهما، وإن حلف واحد فالألف له.
فللشيخ رحمه الله على ما ذهب إليه وجهان، وقد أشكل المحقق وغيره في الأوّل منهما ، بأن الإخوة معترفون بعدم استحقاق الربع وأنه للولد، فكيف يجوز لهم أخذه بنكوله عن اليمين ؟
لكن الشيخ نفسه قد تعرّض لهذا الإشكال وأجاب عنه، وهذا نصّ كلامه:
« فإن قيل: الثلاثة إذا اعترفوا بالربع للصبي كيف يعود إليهم ما اعترفوا به لغيرهم ؟ قلنا: الإقرار ضربان: مطلق ومعزى إلى سبب، فإذا عزي إلى سبب فلم يثبت السبب عاد إلى المقرّ به، كقولهم: مات أبونا وأوصى لزيد بثلث ماله، فردّ ذلك زيد، فإنه يعود على من اعترف بذلك، وكذا من اعترف لغيره بدار في يده فلم يقبلها الغير ، عادت إلى المقر، كذلك ههنا »(10).
وفي الوجه الثاني نظر، فأما المثال الأوّل فالفرق بينه وبين محلّ الكلام واضح ، لأنه مع ردّ زيد الموصى له للوصية لا تتم تلك الوصية، وأما الثاني ، فلا نسلّم بعود الدار إلى المقرّ مع عدم قبول المقرّ له، لأن المقرّ يعترف بعدم استحقاقه لها ، فيلزم اعطاؤها للمقرّ له بأي نحو كان.
هذا، وما ذهب إليه الشيخ من عود سهم الولد إلى الثلاثة أحد الوجوه في مصرف هذا السهم في هذه المسألة، وقد ذكر وجهان آخران:
الأوّل: صرفه إلى الناكل بالرغم من نكوله، لاعتراف الإخوة له بالاستحقاق دونهم، إلاّ أن هذا يتوجه فيما إذا كان الولد معترفاً بالوقفية أو ممتنعاً عن اليمين، وأما في صورة انكاره لأصل الوقفية واعترافه بعدم الاستحقاق ، فلا وجه لأخذه ما يعطونه، لكن الشيخ لم يمنع من أخذ الثلاثة لهذا السهم مع اعترافهم بعدم كونه لهم، مع أن الفرق بين الموضعين غير واضح، إلاّ أن الشيخ قد وجّه ما ذهب إليه بما قدمنا نقله عنه من تقسيمه الإقرار إلى ضربين.
ويمكن القول هنا بأن كون المال للإخوة بأحد سببين:
الأوّل : كون المال إرثاً، فهم يستحقّونه بالإرث بالعنوان الأوّلي، إلا أن يقوم دليل ثانوي على تصرفهم فيه بعنوان آخر.
والثاني: السبب العارض والعنوان الثانوي وهو الوقفيّة. وحينئذ ، فإن إقرار الإخوة بعدم كون السهم لهم مستند إلى الوقفيّة، لكن رفع اليد عن مقتضى الدليل الأوّلي للاستحقاق يتوقف على ثبوت عنوان الوقفية، أما هناك فإن مجرّد عدم ثبوت الوقفية كاف لثبوت كونه إرثاً ، من غير حاجة إلى أن يحلفوا على الإرث، وعلى هذا، فإن الإقرار المستند إلى الوقفية مع عدم ثبوت المستند لا يمنع من صرف سهم الناكل إليه، فيكونون شركاء في الإرث، إلا أن الإخوة الثلاثة يعلمون بأن الجمع بين العنوانين لا يجوز.
الوجه الثاني: أنه وقف تعذّر مصرفه، لأنه لا يصرف إلى الثلاثة لاعترافهم بعدم الإستحقاق، ولا إلى الولد لعدم ثبوته له بنكوله، فيكون من صغريات مسألة الوقف الذي تعذر مصرفه، فهل يرجع إلى الواقف أو ورثته، أو يصرف في أقرب الوجوه إلى غرضه أو مطلق وجوه البر ؟ وجوه.
( الخامسة ): قال المحقق: « ولو مات أحد الإخوة قبل بلوغ الطفل عزل له الثلث من حين وفاة الميت، لأن الوقف صار أثلاثاً وقد كان له الربع إلى حين الوفاة، فإن بلغ وحلف أخذ الجميع،وإن ردّ كان الربع إلى حين الوفاة لورثة الميّت والأخوين ، والثلث من حين الوفاة للأخوين »(11).
وهذا مذهب الشيخ قدّس سرّه ، قال المحقق: « وفيه أيضاً إشكال كالأوّل ».
أقول: إن ردّ فلا يعطى ورّاثه شيئاً، بل يصرف إلى ورثة الواقف فإنهم الطبقة الأولى وينكرون الوقفية، وإن لم يكن له ورثة فيصرف إلى الحالفين.
هذا، وأضاف في ( الجواهر )(12) فرعاً وقال: ولو ادّعى البطن الأوّل الوقف على الترتيب وحلفوا مع شاهدهم، فقال البطن الثاني بعد وجودهم : إنه وقف تشريك، ففي القواعد : كانت الخصومة بينهم وبين البطن الأوّل، فإن أقاموا شاهداً واحداً حلفوا وتشاركوا، ولهم حينئذ مطالبتهم بحصّتهم من النماء من حين وجودهم(13). وفي كشف اللثام: وإن نكلوا خلص الوقف للأوّلين ما بقي منهم أحد، وإن تجدّدوا أو ادعوا التشريك قبل حلف الأوّلين كان خصوماً لهم ولغيرهم من الورثة، ولكن لا يجدي نكولهم إلا المدّعين، فإنهم لمّا ادّعوا الاختصاص فحلفوا مع شاهدهم ثبت لهم ذلك، نعم، إن انعكس بأن حلف هؤلاء ونكل الأوّلون صار نصيب الأوّلين ميراثاً(14). والله العالم.
(1) شرائع الإسلام 4 : 94.
(2) مسالك الأفهام 13 : 528.
(3) جواهر الكلام 40 : 297.
(4) شرائع الإسلام 4 : 94.
(5) العروة الوثقى 3 : 97.
(6) مسالك الأفهام 13 : 529.
(7) مسالك الأفهام 13 : 529.
(8) جواهر الكلام 40 : 298.
(9) شرائع الإسلام 4 : 94.
(10) المبسوط في فقه الإمامية 8 : 202.
(11) شرائع الإسلام 4 : 94.
(12) جواهر الكلام 40 : 301.
(13) قواعد الأحكام 3 : 452.
(14) كشف اللثام 10 : 146.