المسألة الثانية
( هل يشترط الجزم في الدعوى ؟ )
قال الشيخ قدّس سرّه(1): « فإن كانت أثماناً ، فلابدّ من ثلاثة أشياء يكون بها معلومة وهو : أن يذكر القدر والجنس والنوع… فإن كان هناك خلاف في صحاح أو مكسرة ، فلابدّ من أن يقول: صحاحاً أو مكسرة، لأن التفاوت كثير في كلّ هذا. قالوا: أليس لو باع ثوباً بألف مطلقاً انصرف إلى نقد البلد ؟ هلاّ قلتم يسمع الدعوى مطلقاً وينصرف إلى نقد البلد ؟ قلنا: الفصل بينهما أن الدعوى إخبار عمّا كان واجباً عليه، وذلك يختلف في وقت وجوبه باختلاف الأزمان والبلدان، فلهذا لم يسمع منه إلا محرّرة، وليس كذلك الشراء لأنه إيجاب في الحال، فلهذا انصرف إلى نقد البلد كقيم المتلفات، فوزان الدعوى من الشراء أن يكون في البلد نقود مختلفة، فحينئذ لا يصح أن يطلق الثمن، ولابدّ أن يكون موصوفاً.
هذا إذا كانت أثماناً.
فأما إن كانت من غير الأثمان، لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون عيناً قائمة أو تالفة، فإن كانت عيناً قائمة نظرت، فإن كانت مما يمكن ضبطها بالصفات كالحبوب والثياب ، ضبطها وطالب بها، وإن ذكر القيمة كان تأكيداً ، وإن لم يذكرها جاز، لأن الإعتماد على ضبط الصفات، وإن كانت العين مما لا يمكن ضبط صفاتها كالجواهر ونحوها ، ذكر قيمتها، وأما إن كانت تالفة نظرت، فإن كان لها ـ مثل كالحبوب والأدهان والأقطان ـ وصفها وطالب بها، لأنها يضمن بالمثل، وإن لم يكن لها مثل ـ كالعبيد والثياب ، فلابدّ من ذكر القيمة ».
قال المحقق: « وفي الكلّ الإشكال، ينشأ من مساواة الدعوى بالإقرار ».
ثم قال قدّس سرّه: « ولابدّ من إيراد الدعوى بصيغة الجزم… »(2).
أقول: فسّر صاحب ( الجواهر ) قدّس سرّه كلام المحقق بقوله(3):
« التي يستدلّ بها على جزم المدعي بما يدّعيه ، كما عن الكافي والغنية والكيدري وظاهر الوسيلة بل في الكفاية نسبته إلى الشهرة » وعلّل قول المحقق: « فلو قال: أظن أو أتوهّم، لم تسمع » بقوله: « لأن من لوازم الدعوى الصحيحة إمكان ردّ اليمين على المدعي وهو منتف، وللقضاء بالنكول فيها مع يمين المدعي أو عدمه، وهو منتف هنا أيضاً » أي: لا فرق بين النكول والردّ، وحيث أن كلاًّ منهما منتف هنا، يظهر أن هذه الدعوى ليست صحيحة. هذا توجيه منه لكلام المحقق.
قال في ( الجواهر ): « ولعدم صدق الدعوى عليه عرفاً »(4) أي: لأن الدعوى هو الإخبار عن جزم.
قال المحقق قدّس سرّه: « وكان بعض من عاصرناه يسمعها في التهمة ويحلّف المنكر، وهو بعيد عن شبه الدعوى »(5).
أقول: مراده هو الشيخ نجيب الدين محمد بن نما الحلّي.
وفي (الجواهر) عن بعضهم التفصيل بأنها تسمع في مثل القتل والسرقة ونحوهما من الامور التي يعسر الإطلاع عليها ولا يمكن الجزم فيها بسرعة، ولا تسمع في غيرها.
وعن ( الإيضاح )(6): إنه قوىّ عدم اشتراط الجزم.
لكن عن ( الرياض )(7) الجواب عنه بأنه لم يقل به أحد من الأصحاب، بل إنهم بين قولين: اعتبار الجزم ، والإكتفاء بالتهمة في مقامها.
وقال في ( المسالك )(8): نبّه بقوله: إيراد الدعوى بصيغة الجزم، على أن المعتبر من الجزم عنده ما كان في اللّفظ، بأن يجعل الصيغة جازمة، دون أن يقول: أظن أو أتوهم كذا ، سواء انضمّ إلى جزمه بالصيغة جزمه بالقلب واعتقاده لاستحقاق الحق أم لا، والأمر كذلك، فإن المدّعي لا يشترط جزمه في نفس الأمر ، لأنه إذا كان للمدعي بيّنة يشهد له بحق وهو لا يعلم به، فله أن يدّعيه به عليه وإن لم يعلم سببه في نفس الأمر ما هو.
أقول: كأن ثاني الشهيدين قدّس سرّه(9) يريد أن قول المحقق: « بصيغة الجزم » وعدم قوله بالجزم القلبي، هو لأجل وجوب السماع في هاتين الصورتين وإن لم يكن يقين قلبي، كما تجوز الشهادة بالحق استناداً إلى الإقرار وإن لم يكن يقين قلبي، وكذا المجتهد يخبر عن حكم الله تعالى ويفتي به تارة عن علم ، وأخرى بالاستناد إلى أمارة، وإن لم يجزم بذلك الحكم.
لكن الظّاهر من ( الجواهر )(10) استظهار أنه لما كان يمكن دعوى الجزم في الموردين ويجب سماعها وإن لم يكن عن يقين، فإنه ـ إذن ـ يمكن دعوى الجزم في كلّ مورد.
أقول: إن كانت استفادة صاحب ( الجواهر ) من كلام المحقق صحيحة، ورد عليه إشكاله بأن إظهار الجزم بالصيغة مع عدمه في القلب كذب وتدليس، ولكن استفادة هذا المعنى منه غير تامّة، بل الحق ما ذكره صاحب ( المسالك )، وهو الظاهر من قول المحقق رحمه الله : « بصيغة الجزم ».
وهل الجزم شرط للسماع ؟ قال به جماعة بل قيل إنه المشهور، لأن من لوازم الدعوى هو الحلف عند ردّ اليمين، ولأن الدعوى لا تصدق مع عدمه. وقال في ( الجواهر ): والتحقيق إحالة الأمر إلى العرف، وفي مورد التهمة تصدق الدعوى، ولو سلّم عدمه يصدق التشاجر والتخاصم، ومع صدق الدعوى شملتها عمومات وجوب الحكم.
ثم استشهد رحمه الله بالأخبار الواردة في تهمة القصّار ونحو ذلك(11).
وأما استدلال صاحب ( الرياض )(12) عليه بأن الدعوى توجب التسلّط على الغير بالإلزام بالإقرار أو بالإنكار أو التغريم، وهو ضرر عليه منفي، ففيه: أنه قد يوجب عدم سماعها الضرر على المدعي.
وأما لزوم ردّ اليمين، فإن ذلك غير لازم في موارد كثيرة.
وعن المحقق العراقي قدّس سرّه(13) الاستدلال بالأخبار الواردة في القصّار والصّباغ ، لجواز الدعوى المجهولة التي قامت الأمارة على تهمة المدّعى عليه، فإن تم هذا الحمل بالنسبة إلى تلك الأخبار ، فإن التمسك بالعمومات لا مانع منه، ولو شك في تخصيصها فالأصل عدمه(14).
وفي ( المستند )(15): إذا كانت الدعوى بحيث لا يترتّب عليها فائدة فلا تسمع، مثل أن يعلم من قبل أنه لن يقرّ ولا يحلف ولا يردّ اليمين ـ بناءاً على عدم الحكم بمجرّد النكول ـ فلا تسمع هذه الدعوى، بخلاف ما إذا علم بترتّب فائدة عليها.
(1) المبسوط في فقه الإمامية 8 : 157.
(2) شرائع الإسلام 4 : 82.
(3) جواهر الكلام 40 : 153.
(4) جواهر الكلام 40 : 153.
(5) شرائع الإسلام 4 : 82.
(6) إيضاح الفوائد 4 : 327 ـ 328.
(7) رياض المسائل 15 : 162 ـ 163.
(8) مسالك الأفهام 13 : 437.
(9) مسالك الأفهام 13 : 438.
(10) جواهر الكلام 40 : 153 ـ 154.
(11) ذكر المحقق الآشتياني ( كتاب القضاء : 88 ) رأي صاحب الجواهر بقوله: « وقد فصّل بعض مشايخنا في المقام بين موارد التهمة وغيرها، فحكم بوحوب السماع وعدم الإشتراط في الأوّل، وبعدم وجوبه والإشتراط في الثاني » ثم ذكر تأييده ما ذهب إليه بالنصوص الواردة في تحليف الأمين مع التّهمة، وهي: (1) خبر بكر بن حبيب: « قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أعطيت جبّة إلى القصّار فذهبت بزعمه. قال: إن اتّهمته فاستحلفه وإن لم تتهمه فليس عليه شيء » (2) خبره الآخر عنه عليه السلام: « لا يضمن القصّار إلا من جنت يداه وإن اتّهمته أحلفته » (3) خبر أبي بصير عنه عليه السلام أيضاً: « لا يضمن الصائغ ولا القصّار ولا الحائك إلاّ أن يكونوا متّهمين، فيخوف بالبينة ويستحلف لعلّه يستخرج منه شيئاً » وهذه الأخبار ونحوها تجدها في الباب « 29 » من أبواب كتاب الإجارة من وسائل الشيعة. ثم إنه أجاب عن الإستدلال بهذه الأخبار بنحو ما سينقله السيد الاستاذ دام بقاه عن المحقق العراقي.
(12) رياض المسائل 15 : 163.
(13) كتاب القضاء.
(14) هذا، ولا بأس بذكر ملخّص عبارة المستند في بيان الأقوال في المسألة، وهي هذه: « ذهب المحقق وجماعة إلى أنه يشترط في الدعوى كونها بصيغة الجزم، وهو المحكي عن ابن زهرة والكيدري والتنقيح ، ونسبه في الكفاية إلى المشهور وفي المعتمد إلى الأكثر. وحكي عن الشيخ نجيب الدين ابن نما وفخر المحققين والشهيدين في النكت والمسالك عدم الإشتراط، وهو ظاهر المحقق الأردبيلي واختاره بعض فضلائنا المعاصرين، ولكن المنقول عن الأوّل عدم الإشتراط في التهمة، وعن المحقق الثاني عدم الإشتراط فيما يخفى عادة ويعسر الإطّلاع عليه، كالقتل والسرقة ونحوهما، والإشتراط في نحو المعاملات، وهو ظاهر الدروس والروضة، وقيل: لعلّهم أرادوا بذلك ما ذكره ابن نما فيتّحدان، وهو ظاهر بعض مشايخنا المعاصرين، ونقل في شرح المفاتيح عن الشهيد الثاني وابن نما القول بعدم الاشتراط مطلقاً ثم قال: وقوّى المحقق الشيخ علي عدم الاشتراط فيما يخفى عادة، وظاهره تغاير القولين، ولعلّ مراد من حكم بالإتّحاد فهم « من التهمة » ما يخفى، ومن حكم بالتغاير حمل التهمة على مجرد التوهّم الذي هو أعم من الظن. وتردّد الفاضل في القواعد والإرشاد والتحرير، وهو ظاهر الصيمري والمفاتيح وشرحه والكفاية وإن كان كلام الأخير إلى عدم الإشتراط أميل. وقال والدي المحقق : والتحقيق عندي عدم سماع الدعوى إلا مع احتمال إقرار الخصم أو شهادة بيّنة لها أو ادعاء المدعي سماع أحدهما، والأقوى عدم الإشتراط مطلقاً » مستند الشيعة 17 : 149.
(15) مستند الشيعة 17 : 151.