هل يشترط فيه ما يشترط في المنصوب ؟
قال: « ويشترط فيه ما يشترط في القاضي المنصوب عن الإمام »(1).
أقول: أشكل عليه بأن هذا الكلام لا ثمرة له أصلاً، لأنه بعد اشتراط كونه واجداً للشرائط المعتبرة في القاضي المنصوب، من الإجتهاد وغيره ، يكون قاضي التحكيم المستجمع لها منصوباً من قبل الإمام عليه السلام ومأذوناً له في الحكم.
وقال جماعة: بأن هذا الفرع يجري في زمن حضور الولي الذي بيده الحكم ونصب القاضي لأجل الحكم، فإنه ينفذ حكم من تراضى الخصمان بالترافع عنده مع كونه واجداً للشرائط المعتبرة وإن لم يأذن له الإمام بالحكم، سواء كان في زمن الحضور مع بسط اليد، كزمن النبي وأمير المؤمنين عليهما الصلاة والسلام، أو مع عدمه، فلا ثمرة للبحث عن قاضي التحكيم في زمن الغيبة، لأنه إن لم يكن واجداً للشرائط فلا أثر لحكمه، وإن كان واجداً لها فقد دلّت المقبولة وغيرها على أن من كان كذلك كان مأذوناً من قبل الإمام في الحكم.
وعن بعض المعاصرين: تصوير المسألة بحيث يكون لها ثمرة في زمن الغيبة كذلك، لدلالة رواية الحلبي المتقدمة على أنه لا مانع من الترافع عند من تراضيا بالترافع عنده، وإنما منع الإمام عليه السلام من الترافع عند من يجبر الناس على الترافع عندهم بالسوط والسيف، فالرواية ظاهرة في أنه حيث لا جبر ، يصح الترافع وإن لم يكن واجداً للشرائط، فيكون حاصل البحث: إن الإمام عليه السلام يقول بأن تلك الشرائط إنما تعتبر فيما إذا كان هناك إجبار على قبول الحكم بعد إصداره ـ وإن الحاكم الحق أيضاً قد يلتجأ إلى السيف والسوط لتنفيذ أحكامه ـ فمفاد قوله: إذا لم يكن سيف وسوط، هو أنه ينفذ حكمه وإن لم يكن مجتهداً، ويكفي علمه بالحكم في الواقعة المتخاصم فيها.
وكذا معتبرة أبي خديجة، فإنها ظاهرة في عدم لزوم الإجتهاد، بل يكفي كونه عالماً ببعض القضايا، والرضا بالحكم علّة لجواز الرجوع إليه.
وقوله تعالى: ( يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ )(2) ، يشمل بإطلاقه العامي غير المأذون بالحكم الذي تراضيا بالترافع عنده.
أقول: وفي هذا القول نظر، فإن الآية وأمثالها لم نتمسك بإطلاقها لأجل نفوذ حكم غير المجتهد المطلق، بل أخذنا بالقدر المتيقن منها وهو المجتهد المطلق، فكيف يكون لها إطلاق بالنسبة إلى العامي الذي تراضيا بالترافع عنده ؟
وأما رواية أبي خديجة، فليس المستظهر منها ما ذكر، بل تقدّم أنها ظاهرة في أن من كان كذلك ، فتراضوا بالرجوع إليه، لأنه مجعول حاكماً من قبلي ، فإذا حكم فقد حكم بحكمنا، ومع التسليم بما ذكره ، فإن النسبة بين هذه الرواية والمقبولة هي العموم من وجه، فيقع التعارض ويتساقطان ، ويرجع إلى الأصل المذكور في أول الكتاب.
ولكن الصحيح هو ما استظهرناه سابقاً، وأنه يتقدّم المنطوق على مفهوم تلك الرواية الاخرى، لأن المنطوق يتقدم على المفهوم، ولأنه خاص أيضاً، بل لقد احتملنا سابقاً ، كون المقبولة بصدد بيان اعتبار المعرفة والنظر في الأحكام، والمعتبرة بصدد بيان العلم بالقضايا، فتكون احداهما مؤكدة للاخرى. نعم ، لا يشترط الإحاطة بجميع الأحكام والقضايا ، بل يكفي كونه مجتهداً متجزياً(3).
فالحاصل: إن كان المستفاد من المقبولة والمعتبرة هو اشتراط كونه مجتهداً كما تقدم ، فنقول بنفوذ حكم المجتهد المطلق والمجتهد المتجزي، وأما إذنهما لغيرهما للتصدي فيحتاج إلى دليل. ولو فرض الإطلاق في « يعلم شيئاً » ، فإن المشهور قد أعرضوا عنه وأفتوا بخلافه ، ولعلّه لقرينة موجودة عندهم مفقودة عندنا، فالقول بجواز جعل العامي قاضياً للتحكيم مشكل جدّاً(4).
(1) شرائع الإسلام 4 : 68.
(2) سورة النساء : 58.
(3) أي بغض النظر عن الاجماع على اعتبار الإجتهاد المطلق.
(4) وحاصل الكلام في هذه المسألة في مقامات:
الأوّل: في مشروعية التحكيم، والمشهور كما في المسالك ( 13 : 332 ) والرياض ( 15 : 14 ) والكفاية ( 2 : 664 ) جوازه، بل لم يذكروا فيه خلافاً، بل عن الخلاف والمجمع الاجماع عليه صريحاً، واستدلّوا عليه بعموم قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ ) وبعموم ما دل على وجوب الأمر بالمعروف، وبخصوص « من حكم بين اثنين فتراضيا به فلم يعدل فعليه لعنة الله تعالى » (المغني 11 : 485) ، وهو خبر نبوي عامي. قال في مفتاح الكرامة: « واستدل عليه أيضا في الخلاف بأخبار الفرقة، ويشير إليه حسن أبي بصير يزيد بن إسحاق وغيره من الأخبار. فكأن من أنكر الدليل عليه من الأخبار لم يلحظ أخبار الكتب الثلاثة بكمال التأمل ولم يظفر بأخبار الخلاف ».
هذا ، وصريح عبارة المحقق والعلامة في أول القواعد كغيرهما نفوذ حكم قاضي التحكيم في كلّ الأحكام، قال في المسالك ( 13 : 332 ): لوجود المقتضي في الجميع وعموم الخبر، وعن العلامة أنه استشكل ثبوته في الحبس واستيفاء العقوبة.
الثاني: قد نص المحقق والعلامة والشهيد وغيرهم على أنه يشترط فيه ما يشترط في القاضي المنصوب، بل في المسالك ـ كغيره ـ وقوع الإتفاق عليه، وهو مختار سيدنا الاستاذ دام ظله ، خلافاً لبعض أعلام العصر في مباني تكملة المنهاج.
وقد بحثوا ـ بناء على الإشتراط ـ عن تصوير قاضي التحكيم في حال الحضور والغيبة، لأنه إن استجمعها كان مأذوناً وإن فقدت فيه لم يجز له القضاء.
والثالث: هل يشترط رضا الخصمين بالحكم بعده ؟ قال في الروضة: قولان أجودهما العدم، عملاً بإطلاق النصوص. وقد نسب هذا القول إلى المشهور، ونقل الخلاف عن العلامة في بعض كتبه، وعلى المشهور ، يجوز الرجوع قبل تمام الحكم حتى لو أقام المدعي شاهديه فقال المدعى عليه للقاضي عزلتك ، لم يكن له أن يحكم.