هل القضاء قابل للوكالة ؟
وأمّا بالنسبة إلى زمن الغيبة، فهل للفقيه أن يستخلف غيره إذناً أو وكالة أو ولاية ؟ فيه خلاف، فعن (جامع المقاصد): إن القضاء من الأمور القابلة للتوكيل(1) ، ومال إليه في (الجواهر)، وعن (المسالك) عدم الجواز(2).
أقول: لا نصّ في المسألة، ولا يمكن الجزم بوجوب المباشرة في القضاء أو بعدم وجوبها عن طريق دليل آخر، فلابدّ من المراجعة إلى الأصل.
قال في وكالة (الجواهر)(3): إن المستفاد من كلمات الأصحاب كون الأصل جواز الوكالة في كلّ شيء، ثم ذكر الأصل وعموم أدلّة الوكالة.
قلت: أما الأصل الذي ذكره ـ وهو عدم اشتراط المباشرة في القضاء ـ فإنه معارض بأصالة عدم ثبوت جواز القضاء بالوكالة، وما أفاده في الجواب من أن أصالة عدم جريان الوكالة فيه منقطعة بمشروعية الوكالة ، فمندفع بأن المشروعية لها موارد هي القدر المتيقن من ذلك، وهناك موارد لا تجوز فيها الوكالة قطعاً، وموارد أخرى أصل المشروعيّة فيها مشكوك فيه، فلا ينقطع أصالة عدم الوكالة بمشروعيّة الوكالة بنحو الإهمال، لأنه مع الشك في أصل المشروعية ، فالأصل عدمها.
والحاصل: إن المباشرة ليست من قيود المكلّف به، بل الحاكم بها هو العقل، وحينئذ ، لا يمكن رفعها بالأصل عند الشك، ولو سلّمنا جريانه ، فالأصل عدم جواز توكيل الحاكم غيره في أمر القضاء.
وأما الأدلّة العامّة ، فإن إرجاع القاضي أمر القضاء إلى المقلد ، إما يكون عن طريق جعل التولية له، كما هو المشهور بين الفقهاء من جواز ذلك للحاكم، كأن يجعله متولّياً على موقوفة أو وليّاً على الصغار للقيام بأمورهم، وإما يكون عن طريق التوكيل بأن يوكله في أمر القضاء، كما تجوز الوكالة في أمور أخرى ، كالبيع والطلاق ونحوهما.
لكن الولاية إن كانت من جهة أن لازم جعل الحكومة صلاحيّة الحاكم لتفويضها إلى غيره، فإن هذا يتوقف على استفادة هذه الناحية من أدلّة الجعل وهي غير متحققة، لأن الإمام عليه السلام يذكر صفات القاضي « كالرواية » و « النظر » وغير ذلك، وهذا تحديد من الإمام، وكون القاضي متمكناً من جعل من ليس متصفاً بتلك الصفات ، معناه أن تكون دائرة صلاحيّته أوسع من الإمام، وهذا لا يقول به أحد.
ونحن في التولية على الأوقاف لا نقول بجواز تولية المتولّي غيره، لأن جعل الحاكم إيّاه متولّياً لا يستلزم جواز جعله غيره متولياً عليها بعد موته .
وإن كانت من جهة تنزيل الإمام الحاكم منزلته وإثبات الولاية العامة له، فله أن يجعل مقلّده كما للإمام عليه السلام أن ينصب للقضاء غير المجتهد، ففيه: أن الإمام قد تعرّض لأمر القضاء وللنصب له كلاًّ على حدة وانفراد، وهذا يدلّ على عدم شمول التنزيل لأمر القضاء وأنه لم يجعل القاضي نازلاً منزلته، ومع الشك في جعل الولاية له على نصب غيره ، فالأصل العدم كما هو واضح. فالحاصل: عدم تماميّة إرجاع أمر القضاء إلى المقلد عن طريق الولاية.
وأما الوكالة، فهي ثابتة وجائزة في كثير من العقود، ولكن ثبوتها في القضاء يتوقف على وجود دليل خاص على جواز التوكيل فيه، أو دليل عام يدلّ على أن كلّ أمر يجب صدوره من المكلّف يجوز التوكيل فيه إلاّ ما استثني كالنذر واليمين ونحوهما. أمّا الدليل الخاص ، فغير موجود، نعم ، هناك دليل يمكن الاستدلال بإطلاقه، وهو قوله عليه الصلاة والسّلام: « من وكّل رجلاً على إمضاء أمر من الأمور فالوكالة ثابتة أبداً حتى يعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول فيها »(4) .
وتقريب الإستدلال: إنه لا ريب في أنه إذا لم يكن المتكلّم في مقام بيان جهة من جهات الكلام لم يجز التمسك بالإطلاق بالنسبة إليها، وهذه الرواية تدل على مضي الوكالة في كلّ أمر يجوز فيه التوكيل، وأن الوكالة باقية حتى الإعلام بالعزل، وليست في مقام الدلالة على صحة الوكالة بأي نحو كانت، إلا أنه قد يكون لتلك الجهة التي ينظر إليها المتكلّم في الكلام لازم فيجوز أن يتمسك بالكلام بالنظر إلى ذلك اللاّزم، مثلاً قوله تعالى: ( … فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ… )»(5) في مقام تشريع التيمّم عند فقدان الماء، فيجب على فاقد الماء التيمم، ولكن يجوز التمسك بإطلاق « الماء » فيها ـ بأن يقال المراد عدم وجدان مطلق ما يصدق عليه الماء ـ وإن لم تكن الآية الكريمة ناظرة إلى هذا الحيث، لأن لازم تشريع التيمم بيان أنه متى يجب التيمم، فكان لنا أنْ نقول : إن الآية بإطلاقها تدل على أنه متى لم يوجد ما يصدق عليه الماء يجب التيمم.
وهنا كذلك، فإن الإمام عليه السلام في مقام بيان أن الوكالة إذا ثبتت ، كان عمل الوكيل في ما وكّل فيه ماضياً حتى يعلمه بالعزل، ولكنه قال قبل ذلك « على إمضاء أمر من الأمور » ولازم هذا جواز الوكالة في كلّ أمر لم يقم دليل على عدم جوازها فيه، وإلا لبيّن ذلك في نفس الكلام، فيجوز التمسك بإطلاق هذا الكلام ، بأن يقال بجواز الوكالة في القضاء، لأنه أمر من الأمور عند العرف ، ولم يقم دليل شرعي على عدم قابليّة القضاء للوكالة.
فالظاهر تماميّة هذا الإطلاق وأنه لا مانع من التمسك به(6) إلا إذا قيل : بأن القضاء من الأمور التي يعتبر فيها أهل العرف المباشرة، ولا يقبل التوكيل عندهم، لكن مذهب جماعة من الأصحاب صحة الوكالة فيه، ووجه المنع عند غيرهم عدم تمامية الإطلاق لا عدم القابلية عرفاً.
هذا، وقد جوّز بعض المانعين التوكيل في مقدمات الحكم ، كاستماع الشهادة والتحليف، وأشكل عليه في (الجواهر)(7) بأنه إذا كان استماع الشهادة قابلاً للوكالة فالحكم بالأولويّة. ووجه ذلك ما ذكرناه سابقاً من أن أهل العرف يقسّمون الأمور إلى ما يقبل الوكالة و مالا يقبلها، فمن الأوّل: البيع والشراء، ومن الثاني: الأكل والشرب، فصاحب (الجواهر) يقول : إنه إن جازت الوكالة في استماع الشهادة والتحليف ـ مع أن الحاكم نفسه هو المكلّف باستماعها وبتحليف المنكر ـ كانت جائزة في نفس الحكم بالأولوية.
والصحيح: أن كلّ أمر كان للوكالة عرفية فيه ولا منع من قبل الشرع، كان مشمولاً لـ « الأمور » في الرواية المذكورة، والله العالم.
(1) جامع المقاصد في شرح القواعد 8 : 217.
(2) مسالك الأفهام 5 : 256.
(3) جواهر الكلام 27 : 381.
(4) وسائل الشيعة 19 : 161/1 . أبواب الوكالة ، الباب 1 : « محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن معاوية ابن وهب وجابر بن يزيد جميعاً عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: من وكّل…
محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن محمد بن خالد الطيالسي عن عمرو بن شمر عن جابر بن يزيد ومعاوية بن وهب جميعاً مثله »
(5) سورة النساء 4 : 43.
(6) كما أجاز في العروة التمسك بعموم قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ونحوه بدعوى شموله للوكالة، بناءاً على أن المراد من الوفاء بالعقود هو العمل بمقتضاها ، إن لازماً فلازماً وإن جائزاً فجائزاً.
(7) جواهر الكلام 27 : 381 ـ 382.