موجز الكلام في أخذ الاجرة على الواجبات:
إن العمل الذي يقوم به الإنسان المكلّف تارةً يكون ذا منفعة وأخرى يكون بلا منفعة، فإن كان بلا منفعة ، فلا معنى لأن يطالب بالعوض ، سواء كان واجباً أو لا، وإن كان العمل الذي يقوم به لغيره ذا منفعة له ، جاز له المطالبة بالعوض منه في صورة عدم منافاة أخذ العوض للعمل المطلوب منه الإتيان به، فلو أمره زيد بالخروج للصّلاة على ميّت فطالبه بشيء في مقابل امتثاله ـ الذي أثره لزيد سقوط خروجه إليها وقد كان واجباً عليه كذلك ـ جاز، ولكنه يتنافى مع قصد القربة المعتبر في الصّلاة على الميت، فيشكل أخذ الأجرة على فعله هذا، إلاّ بأن يتصور إيجاد الداعي إلى الداعي، نظير ما إذا أعطى مالاً لغيره لأجل أن يطيع أمر زيد بالقيام بعمل، فإن قام بالعمل إطاعة لزيد جاز أخذ الأجرة وإن كان لا بقصد ذلك لم يجز ، وحينئذ ، فلو أعطاه مالاً لأن يطيع الله ويمتثل أوامره، فإن اعتبر قصد القربة في العمل لم يجز له الأخذ، لعدم صلاحية هذا العمل للمقربيّة، وإن قلنا بأن كونه داعياً إلى الداعي لا يضرّ بقصد القربة وأنه يكفي كون الأمر الإلهي هو الداعي، ولا يضرّ في ذلك وجود واسطة دنيوية تدعو إليه، جاز له أخذ الأجرة على العمل.
وفصّل بعضهم الداعي الراجع نفعه إلى الفاعل ، بين ما إذا كان منفعة من الله سبحانه ، فلا يضرّ بالقصد، وإلاّ لما كان لذكر الأجور التي في القرآن للذين آمنوا وعملوا الصالحات وجه، وإن كان منفعة من غيره عزّوجل فيضرّ بالقصد.
هذا، وفرق بين الواجب التعبّدي والواجب التوصّلي، ففي التوصّلي ، يمكن أن يوجب الشارع أصل العمل وأن لا يمنع من أخذ الأجرة عليه كسائر الصنائع والحرف، فإنها واجبات توصليّة ويجوز أخذ الأجرة عليها ، لكن قيل: هذا ما دام الوجوب فيه كفائياً، وأما إذا كان عينيّاً ، فلا يجوز، فلو انحصر الطبيب في واحد ، كان معالجة المرضى واجباً عينياً بالنسبة إليه ، لوجوب حفظ النفوس المحترمة ، فلا يجوز له أخذ الاجرة، ومن هنا كان الأطباء المتدينون سابقاً يتقاضون الأجور عوضاً عن الحضور لدى المرضى ، ويعبّرون عن ذلك بـ « حق القدم ».
وظاهر قول العلاّمة في (القواعد): « ويجوز أخذ الأجرة على عقد النكاح ويحرم الأجر على الإمامة والشهادة وأدائها »(1) هو أن الواجب المعين لا يجوز أخذ الأجرة عليه. وقال في إجارة (القواعد)(2) « هل يجوز على تعليم الفقه ؟ الوجه المنع مع الوجوب » أي: إذا كان واجباً عينيّاً « والجواز لا معه » أي: لا مع الوجوب العيني وكونه كفائياً.
وفصّل الفخر في (الإيضاح)(3) بين ما يشترط فيه القربة فلا يجوز كالصّلاة على الميت ، وما لا يشترط فيجوز….
وفي (جامع المقاصد)(4) معلّقاً على « هل يجوز » من عبارة القواعد المزبورة: « إن كان واجباً على المعلّم والمتعلّم عيناً أو كفاية لم يجز أخذ الأجرة عليه، لأن المعلّم مأخوذ بالتعليم ومؤديه، فيمتنع أخذ الأجرة كسائر الواجبات » وتنّظر في كلام الفخر قائلاً: بأن الوجوب مطلقاً مانع عن أخذ الأجرة عليه كما تقدم في كتاب التجارة ، وهو صريح كلام الأصحاب، وما ذكره من الجواز إذا لم يكن الواجب مشروطاً بالنيّة ، مخالف لما عليه الأصحاب ».
أقول: أما الكفائي ، فسيأتي الكلام عليه، وأما العيني ـ توصليّاً كان أو تعبديّاً ـ فوجه المنع من أخذ الأجرة عليه هو أن أخذ الأجرة إنما يصحّ حال كونه مالكاً لما يعطيه في مقابل الأجر، فلا مانع من أن يملك الإنسان ما يملكه عيناً أو عملاً ويأخذ العوض، ولذا لا يجوز له أن يؤجر نفسه لثالث في ذلك الزمان المعين أو العمل المعين ، وأمّا إذا كان العمل واجباً عليه شرعاً ولا يجوز له تركه، فإنه لا يملك ذاك العمل، بل عليه القيام به وتسليمه لله، وحيث لا يملكه بل كان ملكاً لله سبحانه، فلا قدرة له على أن يملّكه الغير، سواء كان تعبديّاً أو توصليّاً، وأضاف في (الجواهر) بأنه لو أخذ عوضاً عنه لزم الجمع بين العوض والمعوّض، لكن الأولى أن يقال: بأنه عوض بلا معوض فهو آكل للمال بالباطل.
وفي الواجب الكفائي ، قد صرّح الأكثر بأنه لو تعيّن بالانحصار لم يجز أخذ الأجرة عليه، وإلاّ جاز، لقدرته على الترك، لكن الواجب الكفائي ـ عندنا ـ يتعلّق بالمكلّفين، أي بكلّ واحد منهم كالواجب العيني سواء كان عبادياً أو لا، والفرق بينهما حينئذ : أن العيني لا يسقط بقيام الغير به بخلاف الكفائي ، فإنه يسقط بقيام الغير به بحكم العقل، وعليه، فقبل قيام أحد المكلّفين بالواجب ، لا يملك أحد منهم العمل فلا يجوز له أخذ الأجرة عليه، لكونه أكلاً للمال بالباطل، فظهر أنه لا فرق بين الواجب الكفائي المتعيّن وغيره في عدم جواز أخذ الأجرة.
وذهب جماعة من الأصحاب إلى جواز أخذ الأجرة ، وقالوا في وجه الجواز : بأن هذه الأعمال صالحة لأن تقع عليها المعاملة ـ بقطع النظر عن الوجوب ـ لأن لها ماليّة ويبذل بأزائها المال لرفع الحاجة، ويجوز أخذ المال في مقابلها لأنها مملوكة لأصحابها، ومع الوجوب يكون للمسألة وجوه: أحدها: وجوب العمل مجّاناً، والثاني: وجوب العمل مع جواز أخذ الأجرة، وقد يجب الأخذ للإنفاق على من يجب الإنفاق عليه، والثالث: وجوب العمل مع الخيار في أمر أخذ الأجرة عليه .
قالوا: ولا منافاة بين الوجوب وأخذ الأجرة على العمل، نعم لو صرّح بوجوب الإتيان به مجاناً لم يجز، وأما مع عدم التصريح أو التصريح بالإختيار أو وجوب الأخذ للإنفاق الواجب مثلاً أخذ، وذلك لا ينافي وجوب العمل، ومع الشك في اشتراط المجانية في هذا الواجب وعدمه كان له الأخذ كذلك، جمعاً بين دليل وجوب العمل ودليل حرمة عمل المسلم، لما تقدم من عدم المنافاة.
واختار السيّد في (العروة)(5) الجواز مطلقاً(6) قال: « للأصل والإطلاقات وعدم الدليل على المنع ، سوى دعوى الإجماع والشهرة أو عدم الخلاف، ولا حجيّة في شيء منها، لا سيما مع ما مرّ من وجود الخلاف بل دعوى الشهرة على الجواز، وسوى ما هو المشهور المدّعى عليه الإجماع من المحقق الثاني من عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات، وقد بيّن في محلّه عدم الدليل عليه، لمنع الإجماع ـ مع أن القدر المتيقن منه على فرضه الواجب العيني التعيني التعبّدي ـ ولضعف سائر ما استدلوا به عليه ».
وقد استدلّ على المنع بوجوه:
منها: إنه مناف لقصد القربة.
وفيه: إنه يختص بالتعبّدي ولا يشمل التوصّلي، وهل القضاء من التعبديّات أو التوصليّات ؟ إن نتيجة القضاء كنتيجة الطّهارة من الخبث، فكما أن الطهارة من الخبث حصولها لا يتوقف على قصد القربة، فإن أثر القضاء هو فصل الخصومة وهو يتحقق من غير حاجة إلى قصد القربة، فكون القضاء من التعبديّات غير معلوم، إلا أن يقوم دليل على اعتبار قصد القربة فيه حتى مع تحقق الغرض منه بدونه.
وقد اختلفوا في العبادات، هل يكفي فيها قصد امتثال الأمر أو لابدّ من قصد القربة أيضاً ؟
وقصد الإمتثال يكون على أنحاء، تارة: يعبد الله ويمتثل أوامره لأنه خالقه ورازقه، وأخرى: يعبده ويطيعه خوفاً من عذابه، وثالثة: طمعاً في جنّته، ورابعة: طلباً للمزيد من فضله.. ونحو ذلك، وقد يعبد الله تعالى لأنه أهل للعبادة ، وتلك عبادة أمير المؤمنين عليه السلام والأئمة المعصومين عليهم السلام.
فإن كان المعتبر عدم وجود شيء من الدواعي النفسانية والامور المادية، كان الأخذ منافياً ولم يكن عمله مقرّباً ومسقطاً للتكليف، وإن كان المعتبر الإمتثال والقيام بالعمل وتحققه في الخارج ـ وإن كان الدّاعي إليه هو الاُجرة ـ جاز أخذها، وكأنه يأخذ الأجر على إطاعة الله وامتثاله، لكن المانعين لا يصححون الداعي إلى الداعي، فأما الإمتثال خوفاً فغير مضر.
ومنها: التنافي بين الوجوب وأخذ الاجرة، لأن إيجاب العمل مقتضاه سلب اختيار العبد في العمل وإلغاء ملكيتّه له، فهو ليس له حتى يأخذ شيئاً بأزائه أو لا يأخذ، بل إن العمل حينئذ يوجد في الخارج مملوكاً لله، وهذا نظير ما إذا كان أجيراً لزيد في خياطة مثلاً ، فإنه لا يجوز له أن يملّك نفس هذه الخياطة لعمرو.
وأجاب عنه السيد قدّس سرّه(7) بعد قوله: « إنه مختص بالواجب العيني » بوجهين أحدهما: « منع كون الوجوب من الله تعالى موجباً للملكية نظير الملكيّة للناس ».
وتوضيحه: إن الإيجاب لا يوجب سلب ملكية الإنسان لعمله، فمثلاً عندما ينذر دفع كذا من المال في سبيل الله، يجب عليه ذلك عند تحقق مطلوبه، لكن ذلك لا يخرجه عن ملكه، فلو باعه كان البيع صحيحاً وضعاً ، فالوجوب التكليفي لا يقتضي سلب الملكية، وكذلك العمل إن وجب لا يخرج عن ملك العبد.
والثاني: « لا مانع من اجتماع المالكين إذا كان إحدى الملكيّتين في طول الاُخرى، فإن الله تعالى مالك لذلك الفعل والمستأجر أيضاً مالك له لكن لا لنفسه بل لله تعالى ».
وتوضيحه: إن سلّمنا كون الفعل ملكاً لله ، فإنه لو كانت ملكيّته عرضية ورد الإشكال بأنهما لا يجتمعان، لأن اعتبار الملكيّتين كذلك غير معقول، لكن إحدى الملكيتين في طول الاُخرى ، نظير ملكية العبد التي هي في طول ملكيّة مولاه، فإنه يملك ما وهب مثلاً لكنه مع ما في يده لمولاه، كما أن العقلاء يعتبرون الملكيّة لما يحصل من الطرق المعيّنة، والشارع قد أمضى هذه الملكية ووافق على هذا الإعتبار إلاّ بالنسبة إلى أشياء مخصوصة كالخمر والخنزير، وبالنسبة إلى طرق معيّنة كالمنابذة والربا، بل الملكية من ضروريات جميع الأديان. مع أن الله عز وجل مالك السماوات والأرضين، وسنخ ملكه للأشياء غير سنخ ملكيتنا لها ، إلاّ في المورد الذي جعل هو سنخ ملكيتنا لنفسه، حيث قال تعالى في آية الخمس: ( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ )(8) الآية.
والحاصل: إن الملكيّة الطوليّة موجودة للعبد بالنسبة إلى ماله وعمله وهي ممضاة من قبل الله سبحانه، فيجوز له بيع ماله وعمله وأخذ العوض ، وإن كان هو وما يملكه لله تعالى.
أقول: هذا توضيح الجواب وتقريبه، فأمّا أن يقال بأن ذات العمل الواجب لله ، وأنه عندما يؤجر الشخص نفسه لهذا العمل يؤجر نفسه لإيجاده موصوفاً بكونه لله ويأخذ الأجر عليه، فغير واضح، لعدم اعتبار ملكيّة ما كان موصوفاً بكونه لله لأحد عرفاً.
ومنها: إن أخذ المال على الفعل الواجب أكل للمال بالباطل، والعقلاء لا يعتبرون الملكية في هذه الصورة، لأن الإلزام الشرعي كالإلزام الطبيعي.
وأجاب السيد قدّس سرّه عنه بوجهين ، أحدهما: اختصاصه بالواجب العيني التعييني، والثاني: إمكان أن يكون للمستأجر غرض عقلائي في ذلك، لا أقل من حبّ كون معبوده مطاعاً.
ومنها: إن أخذ الاُجرة على الواجب معناه توقيف الواجب على شرط، ولا يجوز توقيف الواجب على شرط بل يجب الإتيان به مطلقاً.
وأجاب: بأن هذا الإشكال يتوجه فيما إذا جاء بالفعل في مقام العمل مشروطاً، وأما إذا جاء به بنحو الإطلاق وقصد ذات العمل ـ لا العمل الذي كان بأزائه كذا ـ فلا مانع.
على أن هذا ـ لو تمّ ـ يتمشى في التعبديّات فقط.
(1) قواعد الأحكام 2 : 10.
(2) قواعد الأحكام 2 : 294.
(3) إيضاح الفوائد في شرح القواعد 2 : 264.
(4) جامع المقاصد في شرح القواعد 7 : 181.
(5) العروة الوثقى 3 : 19.
(6) أي: بعد أن ذكر الأقوال في المسألة، ولا بأس بإيراد نصّ عبارته: « اختلفوا في جواز أخذ الأجرة على القضاء من المتخاصمين، أو أحدهما أو غيرهما، مطلقاً أو مع الضرورة أو مع عدم التعين عليه أو مع الأمرين، وعدم جوازه مطلقاً على أقوال، فعن جماعة الجواز مطلقاً كما حكي عن القواعد والنهاية والقاضي وعن المفاتيح نقله عن بعضهم، وعن شرحه إسناد جواز الأخذ إلى المشهور وظاهره إطلاق الجواز، وعن جماعة المنع مطلقاً، بل عن المبسوط أنه قال: عندنا لا يجوز بحال، وظاهره الإجماع عليه، وعن المعتمد الإجماع عليه مع عدم الحاجة، وعن الكفاية نفي الخلاف فيه مع وجود الكفاية في بيت المال قال: ومع عدمها ووجود الحاجة قولان أشهرهما المنع، وكذا عن المسالك، وعن بعضهم الجواز مع عدم التعين والضرورة ومع التعين والكفاية لا يجوز قولاً واحداً، وفي المستند دعوى ظهور الإجماع على عدم الجواز مع الكفاية ».
(7) العروة الوثقى 3 : 19.
(8) سورة الأنفال 8 : 41.