متى يحلف المدعي ؟
قال المحقق: « أمّا المدعي ولا شاهد له فلا يمين عليه ».
أي: لما تقدّم مراراً من قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: « البينة على المدعي واليمين على من ادّعي عليه ».
قال: « إلا مع الردّ أو نكول المدّعى عليه على قول ».
أي: بناءاً على القول بتوجّه اليمين على المدّعي مع نكول المدعى عليه ، وأمّا على القول الآخر فيثبت حق المدّعي بنكول المدّعى عليه من دون يمين.
قال: « فإن ردّها المنكر توجّهت، فيحلف على الجزم، ولو نكل سقطت دعواه إجماعاً ».
أي: وتنفصل الخصومة فلا تسمع دعواه بعدئذ.
قال: « ولو ردّ المنكر اليمين ثم بذلها قبل الإحلاف، قال الشيخ: ليس له ذلك إلا برضا المدّعي . وفيه تردّد، منشؤه أن ذلك تفويض لا إسقاط »(1) .
أقول: والظاهر أنه تفويض لا إسقاط، وهو مقتضى عمومات وإطلاقات « واليمين على المدّعى عليه »، إذ القدر المتيقن خروج صورة الردّ مع حلف المدّعي، بل هو مقتضى استصحاب جواز حلف المنكر أو بقاء حقّه في الحلف الثابت له قبل الردّ، ولا ينافيه ما في النصوص من التعليل بقوله عليه السلام: « لأنه رضي… » لأن المراد هو أن اليمين التي كانت برضاه تذهب بحقّه، لا أن مجرد رضاه بيمينه يسقطه.
قال: « ويكفي مع الإنكار الحلف على نفي الإستحقاق… ».
أقول: قد يدّعي المدعي الحلف ولا يذكر سبب الإستحقاق، وقد يذكره أيضاً، فإن لم يذكر السبب حلف المنكر على نفي الحق، وإن ذكره كان بالخيار، فله أن يحلف على نفي الحق، وله أن يحلف على نفي الإستحقاق بحيث يعمّ ذاك السبب وغيره، إذ لا فرق بين نفي عين المدّعى وبين نفي الأعم.
وعن الشيخ: يلزمه الحلف على وفق الجواب، لأنه لم يجب به إلا وهو قادر على الحلف عليه(2).
ولكن مقتضى إطلاقات أدلّة البينة هو الأوّل.
قال المحقق قدّس سرّه: « ولو ادّعى المنكر الإبراء أو الإقباض فقد انقلب مدّعياً والمدّعي منكراً، فيكفي للمدعي اليمين على بقاء الحق، ولو حلف على نفي ذلك كان آكد، لكنه غير لازم »(3).
أقول: أي أنه لا خلاف هنا على أن له أن يقول: والله لم اُبرء ذمتك، أو: والله ما أقبضتني حقي، وله أن يقول: والله إن حقي لباق، بخلاف الفرع السابق حيث كانت المسألة خلافيّة.
قال: « وكلّ ما يتوجه الجواب عن الدعوى فيه يتوجه معه اليمين ويقضى على المنكر به مع النكول، كالعتق والنسب والنكاح وغير ذلك، وعلى القول الآخر تردّ اليمين على المدّعي ويقضى له مع اليمين، وعليه مع النكول »(4).
أقول: إن بعض الدعاوى تسقط مع عدم البينة ولا يمين فيها على المنكر، مثل الدّعوى في الحدود، فلو أحضر زيداً عند الحاكم وادّعى عليه شرب الخمر لم يثبت بهذه الدّعوى حق، فلذا لا يسمعها الحاكم، وأمّا لو كان له بينة على ذلك حكم بوجوب الحدّ عليه. وبعض الدعاوى يحلف المنكر فيها على النفي عند عدم البينة، مثل الدّعوى على مال أو حق.
وبعض الدعاوى وقع الخلاف فيها بين العامّة والخاصّة، مثل الدّعوى على الطلاق والنكاح، فالأصحاب على أن اليمين تتوجّه على المنكر مع عدم بيّنة المدّعي ، وخالف بعض العامة ، فمنع من توجّه الحلف على المنكر في الأبواب المذكورة، لأن المطلوب من التحليف الإقرار أو النكول ليحكم به، والنكول عن اليمين نازل منزلة البذل والإباحة، ولا مدخل لهما في هذه الأبواب ، وخالف بعض آخر منهم، فخصّ التحليف فيما يثبت بشاهدين ذكرين إلحاقاً له بالحدّ.
ولكنّ عمومات وإطلاقات « واليمين على المدّعى عليه » و « على من أنكر » تبطل ما ذهبوا إليه، وما ذكر في وجه المنع استحسان محض، وقد تقدّم أن اليمين تتوجّه على المنكر في كلّ مورد أوجب حقاً، بخلاف الدعوى في الحدود.
مضافاً إلى خصوص ما رووه: « إن ركانة أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله، طلّقت امرأتي البتة. فقال: ما أردت بألبتة ؟ قال: واحدة فقال : والله ما أردت بها إلا واحدة ؟ فقال ركانة: والله ما أردت بها إلا واحدة، فردّها إليه، ثم طلّقها الثانية في زمن عمر والثالثة في زمن عثمان »(5) حيث اكتفى فيه باليمين على ما أخبر به من قصده بها في الطلاق، من جهة أن قصده ذلك لا يعرف إلاّ من قبله، فلذا أمره صلّى الله عليه وآله وسلّم بالحلف.
ولكن استحلافه على أنه قصد المرّة ـ ولم يكن الطلاق ثلاثاً في المجلس الواحد مبدعاً بعد ـ وجهه غير واضح.
(1) شرائع الإسلام 4 : 89.
(2) المبسوط في فقه الإمامية 8 : 207.
(3) شرائع الإسلام 4 : 90.
(4) شرائع الإسلام 4 : 90.
(5) سنن البيهقي 7 : 342.