ما ورد في خصوص القضاء
ثم إنه قد وردت نصوص عديدة في خصوص أخذ الاُجرة على القضاء:
كالصحيحة التي رواها في ( الوسائل ) عن عبد الله بن سنان قال : « سئل أبو عبد الله عليه السلام عن قاض بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق. فقال عليه السلام: ذلك السحت »(1).
أقول: فهل إنه « سحت » لأن السلطان حاكم جور أو أنه سحت لأنه في مقابل القضاء ؟ وجهان، قال السيد: إن ظاهره خلاف الإجماع، فإنه لا مانع من ارتزاقه من بيت المال. أي: فلابدّ من حمل الرواية على الوجه الأوّل، إلاّ أن ظاهر « على القضاء » هو الوجه الثاني. على أنه إن كان من جهة كون السلطان جائراً، فإن للإمام عليه السلام الولاية على الإذن في القضاء في سلطنة السلطان الجائر.
وكالصحيحة عن الشيخ الصّدوق في ( الخصال ) عن عمار بن مروان قال : قال أبو عبدالله عليه السلام: « كلّ شيء غلّ من الإمام فهو سحت، والسّحت أنواع كثيرة، منها ما أُصيب من أعمال الولاة الظلمة، ومنها أجور القضاة، وأجور الفواجر، وثمن الخمر والنبيذ المسكر، والرّبا بعد البيّنة . فأمّا الرشا ـ يا عمّار ـ في الأحكام ، فإن ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم »(2).
فقال المانعون: بأن الصحيحة هذه ظاهرة في أن المراد من « أجور القضاة » فيها ما يأخذه القضاة في مقابل القضاء ، وإن لم يكن ما يأخذونه من « الولاة الظلمة » ، كأن يأخذوا من المتخاصمين مثلاً، فيكون ذلك من « السحت » كأجور الفواحش وثمن الخمر….
وأجاب المجوّزون ـ كالسيّد قدّس سرّه(3) ـ بأن الظاهر أنها ناظرة إلى الاجور التي كان القضاة يأخذونها من « الولاة الظلمة »، فأجورهم إن كانت مما أُصيب من أولئك فهي سحت، لا مطلقاً، من جهة أن الظاهر كون الضمير في « ومنها » راجعاً إلى « ما » في « ما أُصيب » فتكون الحرمة من هذا الحيث.
أقول: والظاهر أنه إن كان هذا الضمير راجعاً إلى ما ذكر ، لجاء بلفظ المذكر لا المؤنث، فما ذكره خلاف الظاهر، ومجرّد عدم تكرار « منها » لكلّ واحد من الأنواع لا يكون دليلاً على ما ذكر. وبالجملة:
إن « أجور القضاة » قسيم لـ « ما أُصيب من أعمال الولاة الظلمة »، فظهورها في حرمة أخذ الاجرة على القضاء تام.
نعم، لا تدلّ على حرمة الإرتزاق من بيت المال لا بعنوان الأجر، ولا سيما مع الحاجة والضرورة، فإن ذلك لا مانع منه، ويكون القاضي حينئذ كسائر العمال، لكن لا بمعنى كون ذلك في مقابل العمل « القضاء » بل يكون نظير تحصيل الطلاّب للعلوم الدينية قربة إلى الله تعالى ، مع أن الحاكم الشرعي يرزقهم من بيت المال، ولقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقسّم الغنائم على من اشترك في الحروب والغزوات ، ويعطي كلاًّ حسب جهده ومقامه… لكن لا بعنوان العوض »(4) .
قال المحقق: « أمّا لو أخذ الجعل من المتحاكمين ، ففيه خلاف… »(5).
أقول: وبناءاً على الجواز ، فهل له أن يأخذه من المدّعي أو المحكوم له أو المتخاصمين معاً ؟ إن كان بعنوان الأجر فهو إما جعل وإما إجارة، وحينئذ ، يجب دفعه على الجاعل أو المستأجر، وإن كان قد قضى ولم يقصد كونه مجّاناً ضمن أجره ، فهل يضمنه المحكوم له لأنه المنتفع بحكمه، أو كلاهما لأنه قد عمل للمحكوم عليه أيضاً وعمله محترم، ولا يشترط في وجوب دفع العوض وجود المنفعة ؟ وجهان.
(1) وسائل الشيعة 27 : 221/1 . أبواب صفات القاضي ، الباب 8.
(2) وسائل الشيعة 17 : 95/12 . أبواب ما يكتسب به ، الباب 5.
(3) العروة الوثقى 3 : 20 ـ 21.
(4) واختار في مباني تكملة المنهاج ( 1 : 5 ) الجواز واستدل عليه بقول أمير المؤمنين عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر رضي الله عنه: « وأكثر تعاهد قضاتك وافسح له بالبذل ما يزيح علّته وتقل معه حاجته إلى الناس » قال: وطريق الشيخ إلى عهده عليه السلام إلى مالك الأشتر معتبر.
(5) شرائع الإسلام 4 : 69.