لو اختلف المترافعان في تعيين القاضي:
فإن اختلف المترافعان في تعيين القاضي، فهل يلزم المنكر بالترافع عند من شاء المدعي الترافع عنده ؟ قيل: نعم، وادّعي عليه الإجماع، لأن المدعي هو صاحب الحق. وفيه نظر، وفاقاً للسيد صاحب ( العروة )(1) قدّس سرّه، إذ ليس للمدعي الحق ، لا على القاضي ـ لأنه لو كان ذا حق لجاز له إسقاطه، والحال أن نظر القاضي في المرافعة حكم واجب ـ ولا على المدّعى عليه، لأنه ما لم يثبت صدق دعواه بحسب القواعد لم يثبت الحق ، وإن أمكن ثبوته في علم الله سبحانه.
على أنه لو كان من حق فهو للمترافعين معاً، فإن للمدّعى عليه الترافع عند من شاء من القاضيين حتى يخلصه من دعوى المدعي ، وكذا إحضاره عنده ليثبت عدم صدق دعواه، وحينئذ ، قالوا: يرجع إلى القرعة لتعيين القاضي ، لأنها المرجع عند التداعي كما سيأتي.
فتحصّل سقوط هذا الوجه لتقديم قول المدعي، ويبقى الإجماع إن كان، وإلاّ فالقرعة هي المرجع أيضاً.
وأما في صورة التداعي، بأن يكون كلّ منهما مدّعياً ومنكراً، كأن يدّعي أحدهما البيع فيثبت لنفسه الخيار والآخر الصلح فلا خيار، فإن توافقا على الترافع عند أحد الحاكمين فهو، وإن سبق أحدهما إلى الحاكم نفذ حكمه بناءاً على نفوذ الحكم الغيابي، وإن رجع كلّ واحد من المترافعين إلى واحد من الحاكمين، وحكم كلّ منهما غياباً ، قال الأكثر بالقرعة، لأن أحد الحكمين المتنافيين مطابق للواقع فيعيّن بها.
لكن مقتضى القاعدة بطلان الحكمين معاً، لأنه إن أريد بالقرعة العثور على الواقع ، كترافع الرجلين على مال في يد ثالث فيقترع، فهو، ولكن في المورد حيث مقدّمات الحكم في كلا الطرفين تامّة، ويراد ترتيب الأثر على كلّ واحد باعتباره حكماً مطابقاً للواقع، كان الحكمان متضادّين، ومقتضى القاعدة سقوطهما، لكن لم أجد من أفتى بذلك.
وتفصيل المسألة: إنه إذا حكم كلّ من الحاكمين لكل من المتخاصمين بنحو التقارن، فالوجه سقوط الحكمين، وإنما يتصور ذلك في الحكم الغيابي ، والحكم الغيابي يتصوّر في حالين:
الأوّل: أن يحضر أحد المترافعين عند الحاكم فيرسل الحاكم خلف الآخر، فتارة يمتنع عن الترافع عند هذا الحاكم ، وأخرى يمتنع عنه مطلقاً، فإن أبى عن الحضور مطلقاً، طلب الحاكم من المدعي الشهود ثم يحكم حكماً غيابيّاً على الخصم وينفذ هذا الحكم في حقّه بلا كلام، وإن أبى عن الحضور عند هذا الحاكم مع الموافقة على الترافع عند غيره، فهل يسمع كلامه أو لا ، فيحكم عليه غياباً ؟
الصحيح: إنه لا وجه لإلزامه ، بل يرجع إلى القرعة.
الثاني: أن يكون الحكم غيابيّاً بالنسبة إليهما معاً ـ بأن يكون أحدهما في بلد والآخر في بلد آخر، فيرجع كلّ منهما إلى حاكم بلده بعد عدم اجتماعهما في بلد واحد للمرافعة لجهة من الجهات، فيحكم كلّ واحد من الحاكمين حكماً غيابياً على الخصم الآخر ـ فأي الحكمين النافذ ؟
إن علم الأسبق منهما زماناً فهو المقدّم، ومع عدمه فالقرعة هي الطريق لتعيين الحكم السابق النافذ، ومع العلم بوقوعهما في زمان واحد ، فمقتضى القاعدة سقوطهما، لأنهما كالسببين المتمانعين، وبعبارة أخرى: هما حكمان لموضوع واحد، ودليل اعتبارهما واحد، فحيث لا يمكن اجتماعهما يسقطان.
وقيل: إنهما كالخبرين المتعارضين، فيحكم بالتخيير.
قلت: إنما يحكم بالتخيير بين الخبرين المتعارضين في صورة الإمكان ، لا في كلّ خبرين متعارضين، وفيما نحن فيه ، لو كان مقتضى أحد الحكمين كون المال المتنازع فيه لزيد ومقتضى الآخر كونه لعمرو ، كيف يحكم بالتخيير ؟
قال السيد قدّس سرّه: إن أدلّة نفوذ حكم الحاكم منصرفة عن مورد التعارض بين الحكمين، فدليل اعتبار الحكم لا يشمله.
قلت: إذا كان كذلك ارتفع فرض التعارض في كلّ مورد، على أنه لو قيل بحجيّة حكم الحاكم في صورة عدم وجود حكم معارض، كان لازمه جعل حال الحكم قيداً للموضوع وهو محال.
واحتمل السيّد الرجوع إلى حاكم ثالث ، فيكون حكمه رافعاً للنزاع.
قلت: وهل يجب ذلك أو هما بالخيار فيرجع البحث ؟ والصحيح: سقوط الحكمين معاً ، فإن تراضيا بعدئذ بالترافع عند حاكم ثالث فهو، وإلاّ فيرجع إلى القرعة لتعيين الحاكم.
ثم إن التداعي يكون تارة في الشبهة الحكميّة، كأن تعقد البنت الباكرة العاقلة الرشيدة نفسها لرجل ـ بناءاً على صحته ـ ويعقدها الولي لرجل آخر ـ بناءاً على استقلاله في ذلك ـ فيقع النزاع بين الرجلين…
وكما لو وقع النزاع في الحبوة بين الولد الأكبر وسائر الورثة، فاختلف الطرفان في الحكم تبعاً لمقلديهما ـ مثلاً ـ.
وأخرى في الشبهة الموضوعيّة، كأن يتنازعا على مال، فإن كان في يد أحدهما ، كان الآخر مدّعياً وصاحب اليد منكراً، فإن أثبت المدعي ملكيته له فهو، وإلاّ حلف المنكر على أنه ليس للمدعي وأبقي في يده، وإن لم يكن لأحدهما يد على المال كان التداعي.
وقد أجرى في ( المستند ) هذا التفصيل في الشبهة الحكمية أيضاً(2).
والحق ـ وفاقاً للسيد قدّس سرّه ـ كونهما متداعيين في تلك الشبهة وإن كان لأحدهما يد، لأن اليد حجّة في صورة الجهل بمدركها ، فيحتمل أن تكون على وجه صحيح، وأما مع العلم بكون مستند اليد فتوى المجتهد مثلاً فليست بحجة… فلو كانت المرأة تحت من عقد له الأب ، وجاء من يدعي سبق عقد الجد له عليها ، ووقع النزاع حول الأقدم، كان احتمال صحة اليد في محلّه ، فيطالب الخصم بالبينة، فإن جاء بها وإلاّ حلف صاحب اليد وبقيت تحته، ففي هذه الصورة حيث النزاع على الأسبقية ، وليس المنشأ هو الاختلاف في الحكم ، يحتمل صحة اليد، وكان من قبيل المدعي والمنكر لا المتداعيين.
(1) العروة الوثقى 3 : 14 ـ 15.
(2) مستند الشيعة في أحكام الشريعة 17 : 95.