لا يستحلف أحد إلاّ بالله:
قال المحقق قدّس سرّه: « ولا يستحلف أحد إلاّ بالله ولو كان كافراً »(1) .
أقول: إن اليمين تكون في موارد ثلاثة:
الأوّل: في المورد الذي لا يترتب عليه أثر أصلاً، كأن يحلف الرجل على ما يقوله في مقام التكلّم مع غيره، فهذا ما لا يترتب عليه أثر وضعي.
والثاني: أن يحلف على فعل أمر راجح فعله أو ترك أمر مرجوح فعله، وأثر هذه اليمين هو وجوب الكفارة عليه مع المخالفة إن كانت بالله عزّوجل.
والثالث: اليمين في مورد المرافعة لإثبات حق أو إسقاطه.
ففي الأوّل: يجوز الحلف بغير الله تعالى ؟ إن الأخبار الواردة في النهي عن اليمين بغير الله هي فوق حدّ التواتر، لكن الأصحاب رفعوا اليد عن ظهورها في الحرمة وحملوها على الكراهة، ولم يفت أحد منهم بحرمة اليمين بغير الله، بل ادّعي الإجماع على الكراهة، بل لقد وجدنا في الأخبار حلف الأئمة بغير الله في محادثاتهم ومحاوراتهم(2)، وفي ( كتاب القضاء ) للمحقق الآشتياني: أن عليه السيرة، وأجاب عن ذلك : بأن الأخبار الناهية عن اليمين تصلح لأن تكون رادعة عن هذه السيرة، وفيه: إنها ليست رادعة، بل يمكن القول بأن السيرة كاشفة عن عدم إرادة الحرمة من تلك الأخبار(3) .
وأشكل: بأن بعض تلك الأخبار يأبى الحمل على الكراهة، مثل ما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: « من حلف بغير الله فقد أشرك »(4) وفي حديث آخر « فقد كفر »(5).
وفيه: إن الحديثين ـ مع الغض عن سندهما ـ محمولان على اليمين الموجبة للكفر والشرك، كأن يحلف المسلم باللاّت والعزّى، أو بالأب والابن ـ تعالى الله عن ذلك ـ ونحوهما… ويشهد بذلك وجود لفظي الشرك والكفر في الحديثين، لأن من المعلوم أن الحلف بغير الله مما لا يوجب الكفر والشرك لا يكون كفراً وشركاً، ويؤيد ذلك سيرة المتشرعة.
وفي الثاني: لا إشكال في جواز الحلف بغير الله وعدم وجوب الكفارة على مخالفته.
وأما الثالث ـ وهو مورد البحث والكلام ـ فقد دلّت جملة من النصوص بصراحة على أنه لا يحلف إلاّ بالله، وإليك بعضها:
1 ـ عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « لا يحلف اليهودي ولا النصراني ولا المجوسي بغير الله، إن الله عزّ وجل يقول: (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ) »(6).
2 ـ عن جراح المدائني عن أبي عبد الله عليه السلام: « لا يحلف بغير الله. وقال: اليهودي والنصراني والمجوسي لا تحلّفوهم إلا بالله عزّوجل »(7) .
3 ـ عن الحلبي قال: « سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أهل الملل يستحلفون . فقال: لا تحلفوهم إلاّ بالله عزّوجل »(8).
4 ـ عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « سألته هل يصلح لأحد أن يحلّف أحداً من اليهود والنصارى والمجوس بآلهتهم ؟
قال: لا يصلح لأحد أن يحلّف أحداً إلا بالله عزّ وجل »(9).
5 ـ عن الحلبي قال: « سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أهل الملل كيف يستحلفون ؟ فقال: لا تحلّفوهم إلاّ بالله »(10).
6 ـ عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « سألته عن استحلاف أهل الذّمة. قال: لا تحلّفوهم إلا بالله »(11).
7 ـ عن علي بن مهزيار قال: « قلت لأبي جعفر الثاني عليه السلام: قول الله عزّوجل: ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ). وقوله عزّوجل (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى )(12) وما أشبه هذا. فقال: إن الله عزّ وجل يقسم من خلقه بما شاء ، وليس لخلقه أن يقسموا إلاّ به عزّ وجل »(13).
8 ـ عن محمد بن مسلم قال: « قلت لأبي جعفر عليه السلام : قول الله عزّوجل (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى )(14) (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ) وما أشبه ذلك. فقال: إن لله عزّوجل أن يقسم من خلقه بما شاء، وليس لخلقه أن يقسموا إلاّ به »(15) .
9 ـ عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « لا أرى للرجل أن يحلف إلاّ بالله… »(16).
10 ـ عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « لا أرى للرجل أن يحلف إلاّ بالله … »(17).
فهذه الأخبار تدلّ على أنه لا يستحلف أحد إلاّ بالله عزّ وجل، ولو كان كافراً بإنكار أصل واجب الوجود فضلاً عن غيره، وقد ورد في بعض الأخبار(18) أن اليمين بغير الله يؤدّي إلى ترك الحلف بالله، أي أنه في المورد الذي يترجّح فيه اليمين ، لابدّ من الحلف بالله حتى لا يعظّم شيء في مقابله عزّوجل، لأن الحلف يكون عادة بماله أهمية وجلالة وعظمة، فالإلتزام بالحلف بالله تعالى تعظيم له وإثبات لعظمته ونفي لعظمة شيء سواه ، وأما الإستحلاف في مورد المرافعة، فلا يجوز بغير الله عز وجل وإن رضي الطرفان بالحلف بغيره.
وهناك أخبار واردة في الاستحلاف بغير الله تعالى ، سنذكرها قريباً.
ثم إن ظاهر أخبار المقام عدم اعتبار إضافة شيء من صفات الذات أو الأفعال إلى الاسم في ترتب الأثر، لكن قال المحقق:
« وقيل: لا يقتصر في المجوس على لفظ الجلالة، بل يضم إلى هذه اللّفظة الشريفة ما يزيل الاحتمال لأنه سمّى النور إلهاً »(19).
أقول: هل يستحلف المجوسي الذي يسمّي النور آلهاً بالله تعالى كالمسلمين أو يقال له : « احلف بخالق النور » مثلاً وإن كان غير معتقد به ؟ ظاهر ( المبسوط )(20) حيث قال: « فإن قيل: كيف حلّفته بالله وليست عنده بيمين؟ قلنا: ليزداد إثماً ويستوجب العقوبة » هو الثاني، لكن مقتضى إطلاق الأخبار هو الأوّل، وأما قول الشيخ: « ليزداد إثماً ويستوجب العقوبة » فلم يظهر لنا المراد منه.
وكذا الأمر بالنسبة إلى منكر أصل واجب الوجود، ومن يعتقد بإله غير الله، ومن يعتقد بإلهين كالثنوية، ومن يعبد الأصنام… لإطلاق الأدلّة.
(1) شرائع الإسلام 4 : 87.
(2) مثل ما عن الرضا عليه السلام من قوله : « لا وقرابتي من رسول الله … » وقد تقدم.
(3) بل في الأخبار ما يقتضي ذلك ، مثل قوله عليه السلام : « وإني لأكره أن أقول والله … » بناء على أن المراد هي « الكراهة » الإصطلاحية.
(4) مستدرك وسائل الشيعة 16 : 50/5 . كتاب الأيمان ، الباب 11.
(5) سنن البيهقي : 10/29.
(6) وسائل الشيعة 23 : 265/1 . كتاب الأيمان ، الباب 32.
(7) وسائل الشيعة 23 : 266/2 . كتاب الأيمان ، الباب 32.
(8) وسائل الشيعة 23 : 266/3 . كتاب الأيمان ، الباب 32.
(9) وسائل الشيعة 23 : 267/5 . كتاب الأيمان ، الباب 32.
(10) وسائل الشيعة 23 : 267/6 . كتاب الأيمان ، الباب 32.
(11) وسائل الشيعة 23 : 269/14 . كتاب الأيمان ، الباب 32.
(12) سورة النجم 53 : 1.
(13) وسائل الشيعة 23 : 259/1 . كتاب الأيمان ، الباب 30.
(14) سورة الليل 92 : 1.
(15) وسائل الشيعة 23 : 259/3 . كتاب الأيمان ، الباب 30.
(16) وسائل الشيعة 23 : 260/4 . كتاب الأيمان ، الباب 30 .
(17) وسائل الشيعة 23 : 261/5 . كتاب الأيمان ، الباب 30.
(18) وسائل الشيعة 23 : 259/ الباب 30 و264 ، الباب 31.
(19) شرائع الإسلام 4 : 87.
(20) المبسوط في فقه الإمامية 6 : 194.