حكم ما لو ذكر المدعي أن له بينة غائبة:
قال المحقق: « ولو ذكر المدعي أن له بينة غائبة، خيّره الحاكم بين الصبر وبين إحلاف الغريم… »(1).
أقول: ذكر جماعة: أنه لو ذكر المدعي بعد طرح دعواه عند الحاكم أن له بيّنة على ما يدعي ولكنها غائبة، خيّره الحاكم بين أن يصبر حتى تحضر البيّنة وبين أن يحلف غريمه المنكر، وليس للمدّعي ملازمة الغريم ولا مطالبته بكفيل.
وليس في عبارة المحقق قدّس سرّه ذكر لمدّة الصبر، وأما التخيير بينه وبين إحلاف الغريم فهو مقتضى القاعدة، ولا حاجة إلى دليل خاص يدلّ عليه، لأن الخيار بيده وأن يمين الغريم حق ثابت له، بل له اختيار إحلاف الغريم حتى مع حضور البينة.
هذا ما ذكره المحقق قدّس سرّه هنا، لكن في ( النافع )(2): « ولو قال: البينة غائبة، اُجّل بمقدار إحضارها، وفي تكفيل المدّعى عليه تردّد، ويخرج من الكفالة عند انقضاء الأجل ».
وقد ذكر الشهيد الثاني قدّس سرّه في ( المسالك ) أدلّة الطرفين، فدليل عدم لزوم أخذ الكفيل هو : أن الأصل براءة ذمة المدّعى عليه من إعطاء الكفيل، ولا دليل على جواز الإلزام بإعطاء الكفيل، ودليل اللزوم: إحتمال ضرر المدعي، فيدفع الضرر بأخذ الكفيل. قال في ( المسالك ): وهو الأحوط(3).
إذن، في المسألة ثلاثة أقوال.
وقد أشكل في ( الجواهر )(4) في التأجيل بأنه لا ثمرة له، لأنه إن أحضر البينة بعد انتهاء المدة، سمعت الشهادة بلا خلاف، ولم يقل أحد بأنه يجبر على الإحلاف بعد المدّة مع عدم حضور الشاهدين، وإن كان المراد تعيين الأجل للكفالة، بناء على جواز أخذ الكفيل، كان له وجه، وتكون الثمرة خروجه من الكفالة عند انقضاء الأجل، ولكن هذا لا يتلائم مع عبارة ( النافع ) حيث تردّد في أخذ الكفيل، فيكون التأجيل لغواً.
لكن في قول أمير المؤمنين عليه السلام لشريح: « إجعل لمن ادّعى شهوداً غيّباً أمداً بينهما، فإن أحضرهم أخذت له بحقّه، وإن لم يحضرهم أوجبت عليه القضيّة »(5) دلالة على لزوم تعيين الأجل، فمع انقضائه لم يمهل ، إلا أنه لا قائل بذلك ، فالأولى حمله على مجرد الإمهال حتى حضور البينة، مع احتمال حمله ـ وإن كان بعيداً ـ على كون الشهادة على جرح بينة المدعي بعد إقامتها، فيجعل لإحضار شهود الجرح أمد حتى لا يبقى النزاع بينهما.
وهذا كلّه لو فرض تماميّة سند الخبر.
وهل يلزم التكفيل ؟ استدلّ للعدم بأن المدعي قد اختار الصبر حتى حضور البينة، فلا وجه لإلزامه المدّعى عليه بإعطاء الكفيل أو ملازمته إيّاه أو المطالبة بحبسه، لأن حق المدعي غير ثابت، فكيف يقال بإضرار المدّعى عليه فعلاً، كأن يحبس أو يلازم ، دفعاً للضرر المحتمل توجّهه على المدعي.
فإن قيل: إذن، يؤخذ منه الكفيل، لأنه إن كان ضرراً على المدّعى عليه، فهو أقل من الضرر المحتمل توجهه إلى المدعي.
قلنا: إن قاعدة نفي الضرر ليست مشرعة، بل إنها قاعدة ثانوية ترفع الحكم الأولي المجعول حالكونه ضررياً، وفيما نحن فيه لا حكم شرعي مجعول ترفعه قاعدة نفي الضرر لكونه ضررياً.
فإن قيل: إن حرمة الإلزام بالكفيل حكم ضرري، فترفعه القاعدة ويحكم بالجواز.
قلنا: إن هذا المعنى يستلزم الضرر الكبير على المدّعى عليه، ولا معنى لدفع ضرر أحد الشخصين بضرر الآخر.
وأما كون أخذ الكفيل هو الأحوط كما في ( المسالك )(6) ففيه: أن الأحوط هو العكس، لأن معنى الإحتياط هو الإتيان بالفعل مثلاً لأجل التيقّن بفراغ الذمة على كلا احتمالي الوجوب والاستحباب، وأما هنا، فإن في أخذ الكفيل ضرراً فعليّاً على المدّعى عليه، وفي عدمه ضرر احتمالي على المدعي، فالأحوط عدم أخذ الكفيل منه، لأنه في حال ترك الأخذ يعلم بعدم الضرر، وأما أخذ الكفيل فهو لدفع الضرر المحتمل، مع أنه ضرر قد أقدم عليه المدعي باختياره الصبر، فالأحوط الترك.
وقد يفصّل بأنه إذا كان المدّعى عليه مليّاً ويمكن استرجاع المال منه بعد ثبوت براءة ذمة الخصم، فلا يكفّل، وإلا فيكفل، والوجه في ذلك وجوب مراعاة الحاكم لأقل الضررين في حال دوران الأمر بينهما.
وهذا أيضاً ضعيف، لأنه يلاحظ أقل الضررين إن كانا متوجّهين إلى شخص واحد لا شخصين.
وعلى التكفيل، فهل يتعين في ضرب مدة ثلاثة أيام كما عن ابن حمزة ، أو يناط بنظر الحاكم ؟ قولان.
وإن كان له شاهد واحد، وذكر أن الآخر غائب، فقد قيل بحبسه حتى يحضر الآخر، والأشبه : أنه لا وجه للحبس ولا للتكفيل، فهذا الفرع كسابقه.
(1) شرائع الإسلام 4 : 85.
(2) المختصر النافع : 281.
(3) مسالك الأفهام 13 : 465.
(4) جواهر الكلام 40 : 204.
(5) وسائل الشيعة 27 : 211/1 . أبواب آداب القاضي ، الباب 1.
(6) مسالك الأفهام 13 : 465.