الثاني: حكم ما لو حلف لا يجيب إلى التغليظ:
قال المحقق: « لو حلف لا يجيب إلى التغليظ فالتمسه خصمه لم تنحل يمينه »(1) .
أقول: لو حلف الشخص على أن لا يحلف اليمين المغلّظة انعقدت يمينه، ولو خالف وجبت عليه الكفارة، فإن التمسه خصمه قال المحقق: لا تنحلّ يمينه، لعدم رجحان التغليظ، بل إن مفاد بعض الأخبار كراهة اليمين المغلظة ومرجوحيّتها… وليس من شرط متعلّق اليمين أن يكون راجحاً ـ كما هو الحال في متعلق النذر ـ بل يشترط فيه أن لا يكون مرجوحاً. واستحباب إحلاف الحاكم إيّاه كذلك لا يلازم استحباب إجابة الحالف إليه .
أقول: لكن يمكن القول بأن أدلّة استحباب إجابة دعوة المؤمن وقضاء حاجته، توجب زوال الكراهة وتحقق الرجحان لليمين المغلظة، نظير الصوم المستحب حيث يترجح الإفطار منه لو طلب ذلك، ونظير ما إذا نذر الولد ترك شيء كشرب التتن مثلاً حيث قالوا بانحلاله بأمر والده بفعل ذلك، لأن فعله حينئذ يترجح على تركه، ومن شرط انعقاد النذر رجحان متعلّقه.
بل الظاهر عدم انعقاد اليمين مع طلب المؤمن على أن لا يجيب.
على أن هناك أخباراً تدلّ على أن الرجل لو حلف يميناً على أمر، ثم رأى مخالفتها خيراً من الوفاء بها، جاز له المخالفة بل استحب ولا كفارة عليه… فعن سعيد الأعرج: « سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يحلف على اليمين فيرى أن تركها أفضل، وإن لم يتركها خشي أن يأثم، أيتركها ؟ قال: أما سمعت قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إذا رأيت خيراً من يمينك فدعها »(2).
واستدل في ( الجواهر ) لما ذكره المحقق بأن « حق المستحلف متأخّر عن لزوم اليمين »(3). أي: إنه لمّا حلف على أن لا يجيب ، فقد لزمت اليمين، وحق المستحلف في إحلافه متأخر عن لزومها، وهذا الدليل لا يلائم الدليل السابق عليه، لأنه مع فرض عدم استحباب الإجابة لعدم الملازمة لا يبقى حق للمستحلف، إلا أن يكون هذا الوجه بعد الغض عن ذاك الوجه السابق له.
ثم قال: وما ورد من أن طرّو أولويّة المحلوف على تركه يبيح الحلّ، لا يجدي ، إذ لا أولويّة للحالف وإن التمسه الخصم ، أي طلبه منه…
وهذا الكلام إشارة إلى خبر سعيد الأعرج ونحوه، الظاهر في جواز المخالفة بل استحبابها.
قال: لكن في ( الدروس )(4): ولو حلف على عدمه، ففي انعقاد يمينه نظر، من اشتمالها على ترك المستحب، ومن توهّم اختصاص الإستحباب بالحاكم. وقد اعترض عليه بقوله: وفيه أنه لا خلاف أجده في اختصاص الإستحباب به، بل في ( الرياض )(5): نسبته إلى ظاهر النص والفتوى، بخلاف من عليه الحلف، فإن الأرجح له ترك التغليظ بل الأرجح له ترك الحلف بالله… ومن هنا قال في ( كشف اللثام )(6) معرّضاً بما سمعته من الدروس: واحتمال عدم انعقاد اليمين باستحباب التغليظ في غاية الضعف ».
قلت: لكن ( كاشف اللثام ) ممن قال بالفرق بين التغليظ القولي وبين التغليظ الزماني والمكاني، فاختار لزوم الإجابة في الثاني دون الأوّل، وعلى هذا المبنى ، فلا مانع من القول بانحلال اليمين السابقة على عدم الإجابة.
ثم إن اليمين تارة : تكون في المرافعات المالية، فهنا يمكن أن يقال بتخيير المدّعى عليه بين اليمين وبين دفع المال المدّعى، ولكن هل يمكن أن يكون الشيء الواجب بالوجوب التخييري مكروهاً في نفس الوقت ؟ وأخرى : تكون في الجنايات، فإنه إذا لم يحلف حينئذ يجري القصاص في حقه، فيكون الحلف حينئذ واجباً عليه بالوجوب التعييني، وحيث تجب اليمين فكيف يقال بكراهتها ؟ فمن هنا قال في ( الجواهر )(7): ولكن الإنصاف عدم خلوّ المسألة بعد من إشكال…
وكذا الأمر بالنسبة إلى التغليظ، ولذا قال قدّس سرّه: بل وكذا المغلّظة منها بعد أمر الحاكم بها كذلك…
قال: بل لا يخفى استبعاد رجحان التغليظ للحاكم على وجه يأمر به من عليه اليمين مع استحباب عدمه من الحالف ، وإن كان مخالفاً للحاكم الذي لا ينبغي أن يأمره بما هو مكروه في حقه، كما هو مقتضى القول المزبور.
فتلخص: أن ما ذكره المحقق قدّس سرّه مشكل.
أقول: تارة: يجتمع حكمان من الأحكام الخمسة في موضوع واحد مثل: « أنقذ الغريق، ولا تغصب » فيمن اتفق غرقه في مكان مغصوب، وحينئذ، يتقدّم أحدهما الأهم بحكم العقل.
وتارة: يتوجّه أحد الحكمين إلى ذات الموضوع والآخر إلى ذاك الموضوع مقيّداً بأن لا يتوجه إليه حكم آخر، وحينئذ، لا ريب في تقدّم الحكم الأوّل على الثاني في حال اجتماعهما، ومن هنا قلنا بوجوب الحج على من نذر ـ قبل حصول الإستطاعة ـ أن يزور أبا عبدالله الحسين عليه السلام في كلّ عرفة ، ثم حصلت له الإستطاعة، وانحلال نذره المذكور، خلافاً لصاحب ( العروة ) قدّس سرّه، لأن الشرط في وجوب الحج هو الإستطاعة من حيث المال والبدن وتخلية السرب، وحيث تحقق ذلك كانت الإستطاعة متحققة ووجب الحج، لأن الأمر بالحج متوجّه إلى ذات الحج، والأمر بالوفاء بالنذر ـ في حقيقته ـ متوجّه إلى زيارة عرفة المقيّدة بعدم استلزامها لتفويت الحج(8).
وفيما نحن فيه، إن كان الأمر بالحلف المغلّظ متوجهاً إلى ذات اليمين من دون قيد الرجحان، وكان الأمر بالتزام ما حلف عليه سابقاً مقيداً بعدم استلزام ذلك لترك ما هو الراجح، فإنه يتقدّم أمر الحاكم باليمين المغلظة، إجابة لالتماس الخصم وتنحلّ اليمين السابقة.
(1) شرائع الإسلام 4 : 88.
(2) وسائل الشيعة 23 : 240/1 . كتاب الأيمان ، الباب 18.
(3) جواهر الكلام 40 : 236.
(4) الدروس الشرعية 3 : 96.
(5) رياض المسائل 15 : 107.
(6) كشف اللثام 10 : 116.
(7) جواهر الكلام 40 : 237.
(8) قال السيد بأن الحج مشروط بالاستطاعة الشرعية بالإضافة إلى الإستطاعة من حيث المال والبدن وتخلية السرب، وقد أفتى بناء على ذلك بعدم وجوب الحج على من نذر قبل حصول الإستطاعة المالية والبدنية أن يزور الحسين عليه السلام في كلّ عرفة، لأن الوفاء بهذا النذر واجب ولو حج لفات هذا الواجب، فهو معذور شرعاً من الحج لعدم الاستطاعة الشرعية، كالعقلي في المنع من الوجوب. وقد ذكر سيدنا الاستاذ في حاشية العروة أن الشرط في وجوب الحج على ما يستفاد من الروايات هو الاستطاعة من حيث المال والبدن وتخلية السرب، وأما اشتراط عدم تفويت واجب آخر فلا يستفاد منها، ولذا يجب الحج في الفرض المذكور . العروة الوثقى 2 : 229 / المسألة ، 242 / المسألة 32.