حكم ما إذا نكل المنكر:
قال المحقق: « وإن نكل المنكر بمعنى أنه لم يحلف ولم يرد، قال الحاكم: إن حلفت وإلا جعلتك ناكلاً… »(1).
أقول: المراد من قوله: « وإلا جعلتك ناكلاً » هو حكمه بنكوله، فالحاصل أنه إن حلف المنكر سقطت الدعوى، وإن ردّ اليمين على المدعي، فإن نكل المدّعي سقطت الدعوى كذلك، وإن نكل المنكر فلم يحلف ولم يرد قال المحقق: « قال الحاكم… ».
ثم قال: « ويكرّر ذلك ثلاثاً استظهاراً، لا فرضاً » ولم يقم دليل على ذلك، بل لو فرضنا أن مجرد النكول يوجب الحكم عليه فهو محكوم ، إلاّ أن يقوم إجماع على ما ذكره قدّس سرّه.
قال: « فإن أصرّ ، قيل : يقضى عليه بالنكول، وقيل: يردّ اليمين على المدعي، فإن حلف ثبت حقّه وان امتنع سقط »(2).
أقول: إن أصرّ المنكر على النكول ففيه قولان: أحدهما: إنه يقضى عليه بالنكول، قال به جماعة من المتقدمين، والآخر: يقول له الحاكم: ردّ اليمين على المدعي، فإن ردّ وحلف ثبت حقه ، وإن امتنع المدعى عنه سقط حقه، وهو قول جماعة من الأصحاب …
قال المحقق: « والأوّل أظهر وهو المروي ».
ولقد استدل للقول الأوّل بأخبار:
منها: قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » فقد فصّل بين المدّعي والمنكر، فجعل البينة وظيفة للمدّعي واليمين وظيفة للمنكر، والتفصيل قاطع للشركة، أي: إنهما ليسا شريكين في البيّنة واليمين، بل لكلّ واحد منهما وظيفته في ميزان فصل الخصومة، وأما « ردّ اليمين » فمن الأحكام الطارئة، مثلاً: حقيقة الصّلاة منوطة بتحقق أجزائها وشرائطها المحققة لها أوّلاً وبالذات، وأما ركعة الإحتياط ـ مثلاً ـ فمن الامور الطارئة عليها،… وحينئذ ، لو ردّ المنكر اليمين على المدّعي وجب عليه أن يحلف، وأما إذا لم يردّها عليه عن اختيار، كان القانون العام المذكور هو المطبق لا محالة، وأما القول بأنه متى سكت ردّ الحاكم اليمين على المدّعي ولاية، أو حمل المنكر على الحلف، فيستلزم أن لا يبقى مصداق لنكول المدّعى عليه عن اليمين.
وبعبارة أخرى: مقتضى الدليل الأوّلي هو الحكم بنكوله إذا لم يحلف، وإن ردّ كان أمراً طارئاً، واقتضى الدليل الثانوي ترتيب الأثر عليه لتحقق موضوعه وهو الردّ، وأما إذا لم يحلف ولم يرد، بقي الدليل الأوّل على مقتضاه، وهو الحكم بنكوله.
ومنها: ما رواه محمد بن مسلم قال: « سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الأخرس ، كيف يحلف إذا ادّعي عليه دين وأنكر ولم يكن للمدّعي بيّنة ؟ فقال: إن أمير المؤمنين عليه السلام أتي بأخرس فادّعي عليه دين ولم يكن للمدّعي بيّنة، فقال أمير المؤمنين: الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بيّنت للامّة جميع ما تحتاج إليه، ثم قال: ايتوني بمصحف، فاُتي به، فقال للأخرس: ما هذا ؟ فرفع رأسه إلى السماء وأشار أنه كتاب الله عزّ وجل، ثم قال: ايتوني بوليّه، فأتي بأخ له فأقعده إلى جنبه ثم قال: يا قنبر علي بدواة وصحيفة، فأتاه بهما، ثم قال لأخي الأخرس: قل لأخيك هذا بينك وبينه، إنه علي، فتقدم إليه بذلك، ثم كتب أمير المؤمنين: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضارّ النافع المهلك المدرك الذي يعلم السرّ والعلانية: إن فلان ابن فلان المدّعي ليس له قبل فلان ابن فلان ـ أعني الأخرس ـ حق ولاطلبة بوجه من الوجوه ولا بسبب من الأسباب، ثم غسله وأمر الأخرس أن يشربه فامتنع، فألزمه الدين »(3).
فإن الظاهر منها أن الإمام عليه السلام قد ألزمه الدين بمجرّد امتناعه عن الشرب، وذلك يقتضي أنه قد امتنع عن ردّ اليمين على المدّعي، للإتفاق على أنه لا يحكم عليه مع الرد .
وما أشكل عليه في ( الجواهر )(4): بالقطع بعدم إرادة هذا الظاهر، ضرورة اشتراط الحكم بنكوله عن ردّه أيضاً ، فلابدّ في إصلاحه حينئذ من تقدير، والتزام كونه موافقاً لذلك ليس بأولى من جعله مخالفاً له…
ضعيف، لأنه لو ردّ لحكم الإمام عليه السلام على المدعي باليمين قطعاً ، ولحكى الإمام الصّادق عليه السلام ذلك ألبتة، إذ لا وجه لحكاية بعض الواقعة وترك البعض الآخر مع كونه محتاجاً إليه، لكن لا مانع من عدم حكاية ما هو المحرز منها، وهو ما ذكرنا من عدم ردّه اليمين على المدعي، بل إن حكم الإمام عليه السلام بأداء الحق قرينة على ذلك.
وأما قوله: على أنه قضية في واقعة لا عموم فيها…
ففيه: أن الإمام الصادق عليه السلام قد ذكر القضية في جواب السؤال عن كيفية إحلاف الأخرس حينئذ ، مستشهداً ومستدلاًّ بها، ولم يكن ذلك منه مجرد حكاية لها حتى لا يكون لها عموم.
فتحصّل: أن الرواية تدلّ على كفاية عدم ردّه ـ مع علمه بأن له ذلك ـ للحكم عليه بدفع حق المدعي، ولا يلزم أمره بالردّ ثم الحكم بذلك إن امتنع عن الرد.
ومنها: رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، المتقدمة سابقاً.
فهذا الخبر يدلّ بظاهره صدراً وذيلاً ـ على رواية الشيخ الكليني قدّس سرّه ، وذيلاً على رواية الشيخ الصدوق قدّس سرّه في الفقيه ـ على القول الأوّل، لأن حاصل القدر المتفق على روايته: أن المدّعى عليه إن حلف سقطت الدعوى، وإن لم يحلف فعليه الحق، إلا أن يردّ ـ هو أو الحاكم من قبله ـ اليمين على المدّعي ، ولا يحكم على المدّعى عليه بامتناعه عن اليمين ، فإن حلف المدعي ثبت حقّه وإلا سقطت الدعوى.
ثم إن الجواب عن دعوى ( الجواهر )(5) بأن اختلاف متنه موجب للتزلزل فيه، هو أن التزلزل يكون في حال اختلاف متن الخبر في الكتاب الواحد، وأما هذا الخبر، فقد رواه الصدوق قدّس سرّه بلفظ يختلف عن لفظ الكليني قدّس سرّه، وقد تقرر عندهم أن الشيخ الكليني أضبط من غيره(6)، مع أن المحتمل تعدّد نفس الرواية، ومحلّ الإستدلال رواية الكليني، ومع التنزل، فإن الذيل الذي اتفقا عليه ظاهر في الدلالة على القول الأوّل.
وليس مخالفة ما تدلّ عليه رواية الفقيه لفتوى أبي حنيفة مرجحة، لأن الترجيح بمخالفة العامّة هو في الخبرين المتعارضين حكماً لا المختلفين زيادة ونقصاناً .
واحتمال تقدير جملة، بأن يقال: فإن لم يحلف ـ أي المدّعى عليه ـ وردّ اليمين على المدعي فحلف ـ فعليه. ضعيف جدّاً.
هذا، وقد تلقى الأصحاب هذا الخبر بالقبول، وأفتوا على طبقه في لزوم ضمّ اليمين إلى البينة في الدعوى على الميت ، ولا دليل لهم غيره ، وهذا جابر لضعف سنده .
ثم إن صاحب ( الجواهر ) بعد أن ذكر أدلّة الطرفين قال: « وبذلك كلّه ظهر لك أن أدلّة الطرفين محل نظر… نعم ، قد يقال: إنه بعد فرض الإجماع المركب على انحصار القضاء في الفرض بأحد الأمرين، وأن اختيار أمر ثالث… خرق للإجماع المزبور، يتّجه القول حينئذ إنه يردّ اليمين منه على المدعي، لأصالة عدم ثبوت الحق بدونه، ولظهور حصر استخراج الحقوق في مضمر يونس بالأربعة، ومجرّد النكول خارج عنها، بل لعلّ النصوص المستفيضة أو المتواترة الدالّة على انحصار كيفية القضاء بين الناس بالبينات والأيمان تقتضي ذلك… »(7).
أقول: أما الإجماع المركب، فمنتف هنا، وأما أصالة عدم ثبوت الحق بدون ردّ اليمين على المدعي، فمعارضة بأصالة عدم وجوب ردّ اليمين حينئذ، مع أن حكم الحاكم بوجوب أداء الحق على المنكر ، إن كان من جهة نكوله فالحق ثابت، وإن كان الحكم مترتباً على اليمين أو الردّ فلا يحكم عليه بدفع الحق.
فظهر أنه لا مجال لجريان أصالة عدم ثبوت الحق، لأن موجب الحكم في الصورة الأولى حاصل قطعاً وفي الثانية غير حاصل قطعاً، وحيث يتردّد الأمر بين أمرين مقطوع بهما ، لا يجري الإستصحاب أبداً، إلا أن يقال هنا بأن الأصل عدم جعل حكم للنكول، لكن هذا الأصل أيضاً معارض بأصالة عدم جعل جواز الردّ أو وجوبه أو وجوب إلزام المدّعى عليه بالردّ على الحاكم.
والحاصل: إنه لو افترقت الاُمة على قولين، فقالت طائفة بأن مجرّد النكول موجب لحكم الحاكم، وقالت الأخرى: بأنه ليس له الحكم بالنكول بل يأمر المنكر بردّ اليمين على المدّعي ـ أو يردّها هو من قبله ـ فإن حلف حكم بثبوت الحق وإلا حكم بسقوطه، فإن كان القولان متباينين ـ نظير ما إذا قالت طائفة بوجوب الجمعة في زمن الغيبة، وقالت الاخرى بحرمتها ـ فلا مجال للإستدلال لأحد القولين بالأصل، وإن كان القولان غير متباينين ، كأن يكون الاختلاف بينهما حول شرط من شروط الواجب أو جزء من أجزائه، كأن تقول احداهما بوجوب السّورة في الصلاة، وتقول الاخرى بعدم وجوبها، مع اتفاقهما على إجزاء الصلاة مع السورة، فهنا لا تجري أصالة عدم وجوب السورة، لعدم الشك في إجزاء الصلاة الواجدة لها… وعلى هذا، فإن كان مقتضى القول بكفاية النكول عدم لزوم الردّ على المدّعي مع عدم المنع عنه، ومقتضى القول الآخر لزومه بعد النكول، فالقولان متفقان على ثبوت الحق ببذل المدعي اليمين المردودة ونفوذ الحكم بذلك قطعاً، فلا مجال لأصالة العدم حينئذ، لكن أصالة العدم بالنسبة إلى النكول وحده جارية كما في ( الجواهر ).
هذا، فإن ردّ اليمين على المدعي فنكل، فقولان كذلك، وهنا أيضاً يتعارض الأصلان.
فظهر أن الأصل الذي ذكره في ( الجواهر )(8) يجري في حال قبول الطرفين لترتب الأثر على ردّ اليمين على المدعي مع عدم وجود قول ثالث في البين.
وأما استدلاله بظهور حصر استخراج الحقوق في مضمر يونس بالأربعة. ففيه نظر، إذ الرواية في مقام بيان طرق استخراج الحق من طرف المدّعي فقط لا مطلقاً ، وإلا فإن إقرار المدّعى عليه مثلاً من أسباب ثبوت حق المدّعي، وليس له ذكر في الرواية.
وأما قوله: بل لعلّ النصوص المستفيضة… ففيه: أن الأمر يدور بين تخصيص دليل وجوب البينة على المدعي بأن نقول: إلا في حال ردّ المنكر اليمين عليه، وبين تخصيص دليل وجوب اليمين على المنكر، بأن نقول: إلا إذا ردّها على المدعي، فحينئذ تجب على المدعي لا المنكر، لكنّا ذكرنا سابقاً بأن اليمين توجب الإطمئنان نوعاً بصدق الحالف، وإن الإمتناع منها يكشف ـ نوعاً ـ عن الكذب، فهي مؤثرة وجوداً وعدماً، فميزان القضاء هو بينة المدّعي ويمين المنكر أو نكوله عن اليمين…
(1) شرائع الإسلام 4 : 84.
(2) شرائع الإسلام 4 : 85.
(3) وسائل الشيعة 27 : 302/1 . أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الباب 33.
(4) جواهر الكلام 40 : 184.
(5) جواهر الكلام 40 : 184.
(6) تعرضوا لهذه المسألة كثيراً في صورة وقوع الاختلاف في لفظ الحديث بين رواية الشيخ الكليني والشيخ الطوسي قدّس سرّهما، فقدّموا رواية الكليني على رواية الشيخ قائلين بأنه أضبط في نقل الأخبار ، لأن الكليني لم يشتغل بغير الحديث وقد عمل الكافي في عشرين سنة، بخلاف الشيخ فله كتب كثيرة في علوم مختلفة، ولذا نصوا على وقوع اشتباهات كثيرة في تهذيبه.
(7) جواهر الكلام 40 : 187.
(8) جواهر الكلام 40 : 187 ـ 188.