بعض أحكام البينة:
لو كان للمدّعي بينة، فهنا ثلاثة أحكام، الأوّل: ما تقدّم من قول المحقق « لم يقل الحاكم أحضرها ».
والحكم الثاني قول المحقق: « ومع حضورها لا يسألها الحاكم ما لم يلتمس المدعي ».
والحكم الثالث قوله: « ومع الإقامة بالشهادة لا يحكم إلاّ بمسألة المدعي أيضاً »(1).
والدليل على هذه الأحكام الثلاثة قول المحقق في ذيل الأوّل:
« لأن الحق له » أي الحق للمدعي في هذه الحالات، فله أنْ لا يحضر البينة، وأن لا تدلي بشهادتها مع حضورها ، وألاّ يحكم الحاكم في القضية بعد إقامتها ، بأن ينصرف عن حقه، أو يرضى بيمين المدّعى عليه حينئذ، فإن حلف كان له الإنصراف عن حقّه، وإن امتنع أو ردّ اليمين على المدعي، فهل على المدعي أن يحلف مع وجود البينة أو لا ؟ فيه بحث.
وكيف كان، فإنه يستفاد من هذه الأحكام مطلب آخر، وهو أن للمدعي أن يطالب المدّعى عليه باليمين بعد إقامة الشهادة وقبل حكم الحاكم له، إلا أنا ذكرنا سابقاً أن المنسبق من قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم « إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » بضميمة أدلّة « البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادعي عليه » أنه لو كان للمدّعي بينة على دعواه ، فلا تصل النوبة إلى مطالبة خصمه باليمين، فهو وإن كان له الإنصراف عن حقّه لقاعدة السلطنة، أما كون التخيير بين إقامة البينة وبين المطالبة بيمين المنكر حقاً له ، فغير معلوم، بل لا يبعد أن يكون من جملة الأحكام المقررة لمجلس القضاء وفصل الخصومة أن يطالب الحاكم المدعي بإقامة البينة، فإن لم تكن عنده فيطالب المنكر باليمين، فليس تخيير المدعي بين الأمرين حقاً له، كما أنه ليس من حقوق الحاكم أن يطلب من المنكر اليمين مع وجود بينة المدعي ، خلافاً لمن قال بذلك.
هذا، ولكن ظاهر بعض الأخبار ـ كرواية ابن أبي يعفور ـ هو تخيير المدعي في ذلك، فقد جاء فيها: « إذا رضي صاحب الحق بيمين المنكر لحقه فاستحلفه فحلف أن لا حق له قبله ذهبت اليميين بحق المدعي فلا دعوى له . قلت: وإن كانت عليه بيّنة عادلة ؟ قال : نعم وإن أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له وكانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله مما قد استحلفه »(2).
فهي ظاهرة في وجدانه البينة قبل رضاه بيمين المنكر، إلا أنها غير ظاهرة في كون ذلك بعد إقامة البينة وقبل الحكم.
والمستفاد من رواية أبي العباس: « إذا أقام الرجل البينة على حقه فليس عليه يمين »(3)أنه لا أثر لردّ اليمين بعد إقامة البينة بل يحكم الحاكم له.
وفي رواية محمد بن مسلم قال: « سألت أبا جعفر عليه السلام عن الرجل يقيم البينة على حقه هل عليه أن يستحلف ؟ قال: لا »(4).
فإن كان لفظ « يستحلف » مبنيّاً للمعلوم، كان المعنى أنه ليس عليه أن يستحلف المنكر، وإن كان مبنيّاً للمجهول، كان المعنى أنه مع إقامة البينة على حقّه لا يستحلف المدعي مع البينة، والثاني هو الظاهر.
وفي رواية القاسم بن سليمان عن عبيد بن زرارة: « في الرجل يدّعى عليه الحق ولا بينة للمدّعي. قال: يستحلف أو يردّ اليمين على صاحبه، فإن لم يفعل فلا حقّ له »(5).
وفي رواية يونس: « فإن لم يكن شاهد، فاليمين على المدّعى عليه، فإن لم يحلف وردّ اليمين على المدعي فهي واجبة عليه أن يحلف »(6) فإن مفهومها أنه إن كان له شاهد فلا يمين على المدّعى عليه.
فالحاصل: إن له المطالبة بيمين المنكر مع وجود البينة بمقتضى رواية ابن أبي يعفور، وأما أن يفعل ذلك بعد إقامة الشهادة فلا دليل عليه، بل مقتضى أدلّة الحكم مثل ( فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ )(7) وجوب الحكم على الحاكم حينئذ.
وظاهر عبارة ( الجواهر ) أخيراً هو اختيار هذا الوجه حيث قال: « لكن قد يقال: إن له الحكم وإن لم يسأله المدعي، لأن ذلك منصبه ووظيفته… »(8).
فإن كان المدعي جاهلاً أو غافلاً عن أنه ما لم يحكم الحاكم لم يثبت حقه، فهل على الحاكم تنبيهه أو تعليمه ذلك كي يأذن بحكمه فيحكم، أو لا يلزم عليه ذلك فلا يجب أن يحكم ؟ وجهان.
ثم إن التمس المدّعي سؤال الحاكم البيّنة، فهل للحاكم أن يأمرها بالشهادة أو ليس له ذلك ؟ ذهب إلى الثاني جماعة وقالوا: له أن يقول: من كان عنده شهادة فلا يكتمها، لأن الأمر بالشهادة قد يوهم الإدلاء بالشهادة وإن لم تكن عن علم . ولكن هذا لا يمكن المساعدة عليه، إذ لا يكون معنى الأمر بالشهادة ما ذكروا ، ولا يتوهّمه أحد، بل إن عليه أن يأمرهما بالشهادة لو احتمل كتمانها ، من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالحق هو القول الأوّل.
(1) شرائع الإسلام 4 : 85.
(2) وسائل الشيعة 27 : 244/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 9.
(3) وسائل الشيعة 27 : 243/2 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 8 .
(4) وسائل الشيعة 27 : 243/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 8.
(5) وسائل الشيعة 27 : 241/4 . أبواب كيفية الككم ، الباب 7 . و« القاسم بن سليمان » من رجال كامل الزيارات.
(6) وسائل الشيعة 27 : 241/4 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 7.
(7) سورة ص 38 : 26.
(8) جواهر الكلام 40 : 192.