الكلام في مورد قبول الشاهد و اليمين
ثم هل ثبوت الدّعوى بشاهد واحد ويمين يختص بما إذا كانت في الدين، أو تثبت في مطلق ما كان مالاً ، أو كان المقصود منه المال ، أو يثبت بذلك كلّ ما كان للناس من حق أو مال ؟
قال بالأوّل جماعة، واختار الثاني آخرون بل نسب إلى المشهور، ويشهد للثالث إطلاق عدّة من الأخبار : كخبر منصور بن حازم، وخبر حماد بن عيسى، وكالأخبار الآتية:
1 ) عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام قال : « كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقضي بشاهد واحد مع يمين صاحب الحق »(1) و « كان » له ظهور في الإستمرار.
2 ) عن أبي مريم عن أبي جعفر عليه السلام قال: « أجاز رسول الله صلّى الله عليه وآله شهادة شاهد مع يمين طالب الحق إذا حلف أنه الحق »(2) و « أجاز » هنا بمعنى « الإنفاذ » .
3 ) عن العباس بن هلال عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: « إن جعفر ابن محمد عليهما السلام قال له أبو حنيفة: كيف تقضون باليمين مع الشاهد الواحد ؟ فقال جعفر عليه السلام: قضى به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقضى به علي عليه السلام عندكم، فضحك أبو حنيفة. فقال له جعفر عليه السلام: أنتم تقضون بشهادة واحد شهادة مائة. فقال: ما نفعل. فقال: بلى يشهد مائة، فترسلون واحداً يسأل عنهم ثم تجيزون شهادتهم بقوله »(3).
4 ) محمد بن علي بن الحسين قال: « قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بشهادة شاهد ويمين المدعي. قال وقال عليه السلام: نزل جبرئيل بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق وحكم به أمير المؤمنين عليه السلام بالعراق »(4).
5 ) عن جابر بن عبد الله قال: « جاء جبرئيل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأمره أن يأخذ باليمين مع الشاهد »(5) وهذا الخبر أيضاً ظاهر في أن الحكم الشرعي ذلك، وهو بإطلاقه يشمل المال وغيره.
لكن لا ريب في خروج « حق الله » من تحت هذه المطلقات، لصحيحة محمد ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: « لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس، فأما ما كان من حقوق الله عزّ وجل أو رؤية الهلال فلا »(6) والمراد بضميمة الأخبار الاخرى والإجماع: شهادة الرجل الواحد مع اليمين ، والمراد من « الخصم » هو نفس المدعي.
واستدلّ للقول الأوّل ـ وهو التخصيص بالدين ـ بعدّة من الأخبار المذكورة ، كخبر محمد بن مسلم وخبر أبي بصير المتقدّمين، بل في خبر القاسم بن سليمان:
« سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بشهادة رجل مع يمين الطالب، في الدّين وحده »(7).
وقد حمل إطلاق النصوص السابقة على التقييد في هذه النصوص، وأُجيب عن خبر درع طلحة ـ حيث كان النزاع في العين ـ بأنه إنما أنكر أمير المؤمنين عليه السلام على إطلاق قول شريح « ما أقضي إلا بشاهد آخر معه »، ضرورة عدم كون خصوص المقام مما يكتفى فيه بالشاهد واليمين من الوالي.
وقد يستشكل في هذا الحمل: بأن أخبار « الدّين » تحكي حكم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالشاهد واليمين في الدّين، وهذا لا مفهوم له بل هو نظير: أكرم العالم الفقيه ، إذ لا يفهم منه عدم وجوب إكرام العالم النحوي مثلاً.
بل دعوى اختصاص « الدّين » بالمال ، ممنوعة، فقد ورد التعبير في الروايات عن الحج بـ « الدّين »(8).
وفي ( الجواهر )(9): إن حمل المطلق على المقيد إنما يصح بعد فرض التقييد وعدم قوّة المطلق من حيث كونه مطلقاً ، وهما معاً ممنوعان، لإمكان عدم إرادة التقييد في النصوص السابقة، ضرورة أن القضاء بهما في الدّين أو جوازه لا يقتضي عدم القضاء ولا عدم جوازه بغيره.
فالحاصل: إنه لا مانع من حمل أخبار الدّين على نقل الإمام عليه السلام حكم رسول الله وأمير المؤمنين صلى الله عليهما وآلهما بنحو القضايا الشخصية ـ نظير قوله عليه السلام: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة بكذا ـ ثم يقول بنحو الحكم الكلّي: « لو كان الأمر إلينا أجزنا… في حقوق الناس » وربما يشهد بما ذكرنا أنه جاء في خبر القاسم بن سليمان المشتمل على لفظ « في الدين وحده »: « وقضى رسول الله… » ولم يقل: « كان رسول الله يقضي… ».
هذا كلّه بعد الإغضاء عن قصور السند في بعض الأخبار التي أُخذت مقيدة للإطلاقات(10).
وبعد، فإن مقتضى الإطلاقات هو عدم التخصيص بالدّين، والحكم بالشاهد واليمين في غيره من الحقوق الماليّة، وهل يجوز التعدّية عنها إلى مطلق حق الناس ؟ إن مقتضى الإطلاقات هو ذلك، لكن المشهور على خلافه.
ولعلّ وجه تقييدهم بالحقوق الماليّة ما روي مرسلاً عن ابن عباس: « إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: استشرت جبرئيل في القضاء باليمين مع الشاهد ، فأشار علي بذلك في الأموال وقال: لا تعدو ذلك »(11).
لكنه ـ كما في ( الجواهر ) ـ ليس هو من طرقنا ، ولا معروف النقل في كتب فروعنا…
فالأولى ما ذكره من احتمال فهم الأصحاب « المال » من نصوص « الدّين » لا خصوص المعنى المصطلح، فالمراد من « الدين وحده » هو « المال وحده » فتخرج الحقوق التي ليست بمال.
وأما « حقوق الناس » في صحيحة محمد بن مسلم ، فينصرف إلى الحقوق المالية ، فلا إطلاق له…
وكيف كان، فلا ريب في ثبوت الحق بشاهد ويمين إذا كان مورد النزاع عيناً.
كما لا ريب في كفاية اليمين مع المرأتين القائمتين مقام الرجل الواحد في الشهادة ، للنصوص الدالّة على ذلك، ومنها:
1 ) عن منصور بن حازم: « إن أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام قال: إذا شهد لطالب الحق امرأتان ويمينه فهو جائز »(12) أي: فهو نافذ .
2 ) عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام : « إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أجاز شهادة النساء مع يمين الطالب في الدّين يحلف بالله أن حقّه لحق »(13).
ثم إنه ـ بعد أن استقر رأي المشهور على الثبوت في الحقوق الماليّة ـ لم يفرّقوا بين أن يكون مورد الدّعوى مالاً ، و أن يكون من الحقوق التي تترتب عليها آثار مالية، ولذا ذكر المحقق قدّس سرّه أمثلة من القسمين، ثم ذكر الضابط في المسألة قال(14):
« ويثبت الحكم بذلك في الأموال كالدين » فإنه حق مالي صرف ، « والقرض » فإنه لمّا يقول له: قد أقرضتك كذا يدعي حقاً ماليّاً له على ذمته « والغصب » كذلك، فإنه وإن كان مغايراً للمال مفهوماً، لكنه لمّا يدعي عليه غصب شيء له ، فإنه يستلزم كون ذلك الشيء ملكاً له « وفي المعاوضات » يثبت الحكم أيضاً، فإن المقصود فيها هو المال « كالبيع والصرف والصلح والإجارة والقراض والوصية له » في مال عيناً أو ديناً ، « والجناية الموجبة للدية كالخطأ » فمن ادّعى جناية فقد ادّعى موضوع الدية، فهي حق يقصد بها المال، أمّا لو كانت جناية موجبة للقصاص فلا، لأن القصاص حق وليس مالاً « وعمد الخطأ، وقتل الوالد ولده والحرّ بالعبد » إذ تثبت الدية دون القصاص، فإنه لا يقتل الوالد بالولد والحر بالعبد « وكسر العظام » حيث يتعذر القصاص وتجب الدية، فتكون الدعوى مالية « والجائفة » وهي الجناية التي تصل الجوف ، « والمأمومة » وهي التي تصل أُم الدماغ.
قال قدّس سرّه: « وضابطه ما كان مالاً أو المقصود منه مالاً » أي: بخلاف القصاص ونحوه…
لكن قد وقع الكلام بينهم من جهة أخرى، وهي أنه هل يلزم أن يكون المقصود بالذات المال أو يكفي ترتب الأثر المالي مطلقاً وإن لم يكن هو المقصود بالذات ؟ ولذا اختلفوا في بعض المصاديق كالنكاح، فقد قال المحقق:
« وفي ثبوت النكاح تردّد ».
أي: لتردد المقصود بالنكاح بين كونه مالاً وغير مال، فإن قلنا بالثبوت حتى في صورة كون ترتب المال من اللّوازم البعيدة، ثبت النكاح بالشاهد واليمين، لأن المهر والنفقة ـ إن كانت الدعوى من الزوجة ـ وإرث الزوج مال الزوجة بعد موتها ـ إن كانت الدعوى من الزوج ـ من الآثار المترتبة على النكاح ، وإن كان المقصود منه بالذات هو التناسل وإقامة السنّة وكفّ النفس عن الحرام، والنفقة والمهر تابعان(15).
قال قدّس سرّه : « أما الخلع والطلاق والرجعة والعتق والتدبير والكتابة والنسب والوكالة والوصيّة إليه وعيوب النساء ، فلا ».
أقول: لكن الخلع إذا ادّعاه الزوج يثبت بالشاهد واليمين، لدخوله في الضابط الذي ذكره، من جهة أنه مشروط ببذل الزوجة مالاً إلى الزوج ليطلّقها به، فحيث يدّعي الرجل ذلك فإنه يدّعي حقّاً ماليّاً.
قال: « وفي الوقف إشكال ، منشؤه النظر إلى من ينتقل، والأشبه القبول، لانتقاله إلى الموقوف عليهم ».
أقول: هذا في الوقف الخاص، وأما العامّ فلا تتضمن دعواه المال، لأن الموقوف بالوقف العام لا مالك له، بل يكون كعتق العبد لله، ولو قلنا بالإنتقال فيه إلى الموقوف عليهم، فإنه يتعذّر حلف جميعهم ، ولا فائدة في يمين بعضهم.
أقول: وصفوة الكلام في هذا المقام هو: أن الأصل الأوّلي هو عدم ثبوت شيء إلاّ مع العلم، ثم إن قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم « إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » قد أصبح أصلاً ثانوياً، فتقبل كلّ دعوى أقام المدعي فيها البينة على دعواه ويحكم له بثبوت حقه، ثم نزل جبرئيل عليه بالشاهد واليمين ـ فيجوز أن يكون حاكماً على الحديث السابق، وأن يكون مقيداً له فيكون الحصر فيه إضافياً ـ ثم قيّد إطلاق قبول الشاهد واليمين بحقوق الناس، فلا يقبل ذلك في حقوق الله تعالى ، ثم وقع الخلاف بينهم في المراد من « حقوق الناس »، وقد تقدّم عدم جواز التعويل على ما روي عن ابن عباس ، فإن تم ما ذكرنا من انصراف « حق الناس » إلى « الحق المالي » فهو، وإلا فهي شبهة مفهومية مرددة بين الأقل والأكثر، والأقل هو المتيقن ، والمرجع فيما زاد عنه هو « إنما أقضي بينكم… » فيقبل الشاهد واليمين في كلّ ما كان مالاً من حقوق الناس.
و « الحق المالي » أيضاً مردّد بين ما هو حق مالي بالذات وما هو حق مالي مطلقاً ـ سواء كان مالاً بالذات أو بالتبع ـ وهنا أيضاً يؤخذ بالقدر المتيقن ـ وهو الحق المالي المقصود بالذات ـ وإن لم يكن عنوان الدعوى مالاً مثل البيع، ولذا قال في ( الجواهر ): « ومن الغريب اتّفاقهم على خروج الوكالة عن المال وإن كانت بجعل، وكذا الوصية، واختلافهم في العتق ».
وأما في موارد الشبهة المصداقية، فلا يؤخذ فيها بعموم العام ، بل المرجع هو الأصل. نعم، للمتداعيين العمل بالإحتياط في صورة الشك.
(1) وسائل الشيعة 27 : 267/8 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 14.
(2) وسائل الشيعة 27 : 267/9. أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الباب 14.
(3) وسائل الشيعة 27 : 268/13. أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الباب 14.
(4) وسائل الشيعة 27 : 268/14 . أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الباب 14.
(5) وسائل الشيعة 27 : 269/16 . أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الباب 14.
(6) وسائل الشيعة 27 : 268/12 . أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الباب 14.
(7) وسائل الشيعة 27 : 268/10 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 14.
(8) راجع وسائل الشيعة 8 : 67 ، كتاب الحج ، الباب 25 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ، الأحاديث : 4 ، 5 ، 8 : 113 الباب 28 ، الحديث : 9.
(9) جواهر الكلام 40 : 273.
(10) ففي طريق خبر حماد بن عثمان: « معلى بن محمد » وهو البصري، والراوي لأحدها هو « القاسم بن سليمان »، ولم تثبت وثاقة هذين الرجلين من كلمات علماء الرجال. نعم هما من رجال كتاب كامل الزيارات.
(11) المبسوط في فقه الإمامية 8 : 189.
(12) وسائل الشيعة 27 : 271/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 15.
(13) وسائل الشيعة 27 : 271/3 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 15 . وهي صحيحة.
(14) شرائع الإسلام 4 : 92.
(15) فالحاصل: أن في المسألة أقوالاً: أحدها: عدم الثبوت سواء كان المدعي الزوج أو الزوجة، وقد نسب هذا القول في الروضة وغيرها إلى المشهور ( الروضة البهيّة 3 : 102 ). والثاني: الثبوت كذلك، ذكره الشهيدان لكن في الروضة: لا نعلم قائله، وكذا قال غيره، والثالث: الثبوت إن كان المدّعي الزوجة، وهو مختار العلامة في القواعد ( 3 : 449 ) حيث قال: أما النكاح فإشكال، أقربه الثبوت إن كان المدعي الزوجة، وفي مفتاح الكرامة: تبعه عليه الشهيد في غاية المراد. قال: لأن دعوى المرأة النكاح تستلزم مالاً ما وهو مناط الشاهد واليمين، أما الزوج فلا مال يدّعيه بدعواه الزوجية والتوارث بعيد جداً، ويقرب إذا كان التداعي بعد موت المرأة، ومثله قال الشهيد الثاني. والرابع: التوقف وعليه المحقق هنا ـ أما في النافع فلم يذكر النكاح أصلاً ـ وتبعه الشهيد في الدروس.