المسألة العاشرة
( هل تنعقد الولاية لفاقد الشرائط لو نصبه الإمام مصلحة ؟ )
قال المحقق قدّس سرّه: « إذا اقتضت المصلحة تولية من لم يستكمل الشرائط ، انعقدت ولايته مراعاة للمصلحة في نظر الإمام عليه السلام، كما اتفق لبعض القضاة في زمن علي عليه السلام. وربما منع من ذلك… »(1).
أقول: اختلف الأصحاب في المسألة على قولين، ومنشأ الخلاف أن أمير المؤمنين عليه السلام نصب شريحاً للقضاء ، مع أنه لم يكن جامعاً للشرائط المعتبرة في القاضي، فالمستفاد من بعض الروايات أنه لم يكن عالماً حتى بأحكام القضاء، كما أنه لم يكن عادلاً كما هو واضح، فيدور الأمر في الحقيقة بين رفع اليد عن بعض الشرائط في حال تولية الإمام، أو حمل فعل الإمام على بعض الوجوه.
وقد حمل بعضهم نصب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام شريحاً على التقية، لأنه كان منصوباً من قبل في الكوفة، فلو عزله عليه السلام لخالف القوم ، كما وقع بالنسبة إلى بعض الأمور التي أراد عليه السلام تغييرها أو رفعها، كصلاة التراويح حيث ارتفعت أصوات القوم وجعلوا ينادون « وا عمراه »(2).
وقيل: إن الأئمة عليهم السلام مهما كانوا في تقية وشدّة، لم يكونوا يتّقون في أمر القضاء ، وكانوا ينهون عن التحاكم إلى قضاة الجور والمخالفين ، فكيف بنصب القاضي الجائر ؟ على أن أمير المؤمنين عليه السلام لو كان في حال تقية لما عزل معاوية عن الشام.
أقول: أما النقض بعزل معاوية ، فغير تام، لأن معاوية لم يبايع الإمام مع بيعة سائر المسلمين والولاة له، وأما شريح ، فإن الإمام لم يولّه ولم يتمكّن من عزله حتى خاطبه قائلاً: « يا شريح جلست مجلساً لا يجلسه إلاّ نبي أو وصي أو شقي »(3).
وقيل: إن الإمام لم يفوّض إليه أمر القضاء، بل شاركه فيما ينفذه. وهذا هو المستفاد من الروايات، وهو أحسن الوجوه في المسألة.
وقيل: إنه كان يحكم ، ولكن لا يترتب على حكمه أثر. وهو خلاف الظاهر.
وفي ( المسالك ): المروي من حال شريح معه عليه السلام خلاف ذلك، وفي حديث الدرع الغلول ما يرشد إلى ما ذكرناه(4).
أقول: ولنذكر بعض الروايات التي أشرنا إليها، ثم حديث الدرع:
منها ـ ما عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « لما ولّى أمير المؤمنين عليه السلام شريحاً القضاء اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه »(5).
ومنها ـ ما رواه المشايخ الثلاثة عن سلمة بن كهيل قال: سمعت علياً عليه السلام يقول لشريح: « وإيّاك أن تنفذ قضية في قصاص أو حدّ من حدود الله أو حق من حقوق المسلمين حتى تعرض ذلك علي إن شاء الله .. »(6).
وأما حديث الدرع الغلول ، فهذا نصّه عن الكليني قدّس سرّه ، بسنده عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: « دخل الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل على أبي جعفر عليه السلام ، فسألاه عن شاهد ويمين. فقال: قضى به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقضى به علي عليه السلام عندكم بالكوفة. فقالا: هذا خلاف القرآن، فقال : وأين وجدتموه خلاف القرآن ؟ قالا: إن الله يقول (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْل مِّنكُمْ ) فقال: قول الله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْل مِّنكُمْ ) هو لا تقبلوا شهادة واحد ويميناً ! ثم قال:
إن علياً عليه السلام كان قاعداً في مسجد الكوفة، فمرّ به عبد الله بن قفل التميمي ومعه درع طلحة. فقال علي عليه السلام: هذه درع طلحة أخذت غلولاً يوم البصرة. فقال له عبد الله بن قفل: اجعل بيني وبينك قاضيك الذي رضيته للمسلمين، فجعل بينه وبينه شريحاً.
فقال علي عليه السلام: هذه درع طلحة أخذت غلولاً يوم البصرة.
فقال له شريح: هات على ما تقول بيّنة. فأتاه بالحسن فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولاً يوم البصرة. فقال شريح: هذا شاهد واحد ولا أقضي بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر، فدعا قنبر ، فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولاً يوم البصرة. فقال شريح: هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك.
قال: فغضب علي عليه السلام وقال: خذها، فإن هذا قضى بجور، ثلاث مرّات. قال: فتحوّل شريح وقال: لا أقضي بين اثنين حتى تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرات ؟ فقال له: ويلك ـ أو ويحك ـ إني لمّا أخبرتك أنها درع طلحة أخذت غلولاً يوم البصرة فقلت: هات على ما تقول بيّنة وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: حيث ما وجد غلول أخذ بغير بيّنة. فقلت: رجل لم يسمع الحديث. فهذه واحدة. ثم أتيتك بالحسن فشهد. فقلت: هذا واحد ولا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر، وقد قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بشهادة واحد ويمين، فهذه ثنتان. ثم أتيتك بقنبر فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولاً يوم البصرة فقلت: هذا مملوك وما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلاً. ثم قال:
ويلك ـ أو ويحك ـ إن إمام المسلمين يؤمن من أمورهم على ما هو أعظم من هذا »(7).
(1) شرائع الإسلام 4 : 71.
(2) وسائل الشيعة 8 : 46/2 . أبواب نافلة شهر رمضان ، الباب 10.
(3) وسائل الشيعة 27 : 17/2 . أبواب صفات القاضي ، الباب 3.
(4) مسالك الأفهام 13 : 363.
(5) وسائل الشيعة 27 : 16/1 . أبواب صفات القاضي ، الباب 3.
(6) وسائل الشيعة 27 : 211/1 . أبواب آداب القاضي ، الباب 1.
(7) وسائل الشيعة 27 : 211/1 . أبواب آداب القاضي ، الباب 1.