المسألة الخامسة
( في دعوى أن المعزول حكم عليه بشهادة فاسقين )
قال المحقق قدّس سرّه: « إذا ادّعى رجل أن المعزول قضى عليه بشهادة فاسقين ، وجب إحضاره وإن لم يقم المدعي بينة، فإن حضر واعترف ألزم »(1).
أقول: إذا ادّعى أن له عند الحاكم المعزول حقاً من دين ونحوه أو قال: ارتشى مني، وجب إحضاره للفصل بينهما بحسب الموازين الشرعية، كغيرها من الدعاوى.
وإن ادّعى أنه قضى عليه بشهادة فاسقين عنده وعادلين عند الحاكم لم يكن على الحاكم شيء، لأن المفروض حكمه بشهادة شاهدين عادلين، فإن جاء المدّعي بالبينة لجرحهما فهو وإلاّ فلا تسمع دعواه.
وإن ادّعى أنه قد حكم عليه بالجور، لأنه قد حكم بشهادة فاسقين عنده أيضاً، ففي هذه الصورة قال المحقق: يجب على الحاكم إحضار الحاكم الأوّل وإن لم يقم المدعي البينة ، ثم بعد إحضاره يطالب المدعي بالبينة، فإن أقامها فهو وإلاّ فإن اعترف الحاكم الأوّل بما يدّعيه المدعي ألزم، وما قطع به قدّس سرّه هو مذهب الأكثر. وقيل: لا يحضر الحاكم إلاّ أن يذكر المدعي أن له بينة بذلك.
وعلى تقدير إحضاره ـ سواء قلنا بجوازه مطلقاً أو بعد ذكر المدعي وجود البينة ـ فإن أقام المدعي البينة حكم الحاكم في القضية بحسب الموازين الشرعيّة، وإن اعترف الحاكم ألزم، وإن قال: ما حكمت عليك بشهادة فاسقين كان منكراً والخصم هو المدعي « وإن قال: لم أحكم إلاّ بشهادة عادلين ، قال الشيخ: يكلّف البينة ، لأنه اعترف بنقل المال وهو يدّعي بما يزيل الضمان عنه » ويكون خصمه المنكر، فإن أقام البينة فهو وإلاّ حلف الخصم.
قال المحقق: « ويشكل بما أن الظاهر استظهار الحكّام في أحكامهم، فيكون القول قوله مع يمينه، لأنه يدعي الظاهر »(2) وهذا مذهب الأكثر ، فعلى من ادعى خلاف الظاهر ـ وهو الخصم ـ إقامة البينة على دعواه، كما هي القاعدة المقررة في نظائر المسألة.
ومورد البحث في هذه المسألة هو الحاكم المنصوب من قبل الإمام عليه السلام في زمن الحضور والمعزول من قبله، وأما قبل العزل، فلا تسمع دعوى المولّى عليه، وبه صرّح فخر المحققين في ( شرح القواعد )(3) ومن هنا قيّد المحقق بـ ( المعزول )(4).
(1) شرائع الإسلام 4 : 76.
(2) شرائع الإسلام 4 : 76.
(3) إيضاح الفوائد في شرح القواعد 4 : 320.
(4) والحاصل: أن في المسألة خلافاً في موضعين أحدهما: في وجوب إحضار الحاكم الثاني للحاكم الأوّل المعزول، فقال المحقق والعلامة في القواعد: وجب إحضاره وإن لم يقم المدعي بينة، ونسبه في المسالك إلى الأكثر وقال: وهو الأقوى. وقد استدل له بأنها دعوى شرعية يشملها عموم: « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » فيجب سماعها وترتيب الأثر عليها بإحضار المدعى عليه، وهو الحاكم المعزول، والنظر في المرافعة، وإن لم يقم المدعي بينة له بذلك، قال في الجواهر: بل وإن صرح بعدمها بناء على أن له اليمين، ولاحتمال إقراره، وأبهة القضاء لا تنافي ذلك. وعن بعضهم: لا تسمع مطلقاً، وقيل : لا تسمع إلاّ أن يذكر المدعي أن له بينة عليه بذلك، لأن الحاكم أمين الشرع والظاهر أن أحكامه وقعت على وفق الصواب فيعمل بهذا الظاهر إلى أن تقوم الحجة بخلافه، ولأن فتح هذا الباب موجب للطعن في الحكّام. وهذا القول اختيار فخر المحققين.
والثاني: أنه على تقدير إحضار الحاكم المعزول وجوابه عن الدعوى بقوله لم أحكم إلاّ بشهادة عدلين، فهل يتقدم قوله مطلقاً أو مع اليمين أو يفتقر إلى البينة وإلاّ قدم قول المدعي ؟ اختار الشيخ في المبسوط الثالث، لأنه اعترف بنقل المال وهو يدعي بما يزيل الضمان عنه، فعليه البينة حينئذ. واختار في المسالك الثاني قائلاً: وهو الذي مال إليه المصنف والعلامة وأكثر المتأخرين، وهو قول الشيخ أيضاً في الخلاف وابن الجنيد، لادّعائه الظاهر كسائر الأمناء إذا أدعى عليهم خيانة. وقد أشكل المحقق على قول الشيخ بما سمعت، وفي القواعد: وفيه نظر، لأن الظاهر من الحكام الاستظهار في حكمهم فيجب عليه اليمين لادّعائه الظاهر. وقد ردّ دليل الشيخ: بمنع كون مطلق نقله المال موجباً للضمان، بل إنما يكون سبباً للضمان مع التفريط ، والأصل عدمه، وبأن هذا يؤدي إلى امتهان الحكّام وزهدهم في الأحكام. وقيل: إنه يصدق بغير يمين، لأنه كان أمين الشرع فيصان منصبه عن التحليف والابتذال. وقد حكى الشيخ هذا القول في المبسوط، قال في المسالك: واستحسنه الشيخ فخر الدين في شرحه بعد أن رجح القول الثاني، ولا نعلم به قائلاً من الأصحاب، وفي مفتاح الكرامة: حكاه الشيخ وهو الصواب.
هذا، وظاهر السيد الأستاذ موافقة المحقق في كلا الموضعين.