المسألة الثانية
( في حكم تولّي القضاء )
قال المحقق قدّس سرّه: « تولّي القضاء مستحب لمن يثق من نفسه بالقيام بشرائطه ، وربما وجب ووجوبه على الكفاية… »(1).
أقول: فيه مطالب:
الأوّل: تولّي القضاء مستحب، وظاهر كلامه أنه مستحب ذاتاً.
الثاني: إنه لمن يثق من نفسه بالقيام بشرائطه.
الثالث: إنه قد يجب.
الرابع: وجوبه حينئذ كفائي.
وفي (الدروس): ولو وجد غيره ، ففي استحباب تعرّضه للولاية نظر، من حيث الخطر وعظم الثواب إذا سلم، والأقرب ثبوته لمن يثق من نفسه القيام به(2).
وفي (الروضة): وفي استحبابه مع التعدد عيناً قولان: أجودهما ذلك مع الوثوق(3).
وفي (كشف اللثام): ويستحب التولية على الأعيان إلاّ من وجبت عليه عيناً ، لأنه أمر مرغوب عقلاً وشرعاً(4).
وفي (الرياض): استحبابه ـ أي قبوله ـ عيني، فلا ينافي ما قدمناه من أنه واجب كفائي(5).
أقول: المنافاة أو عدمها يتوقّف على بيان الواجب الكفائي، وهو: ما وجب الإتيان بالواجب على الكلّ ويسقط بإتيان البعض، بخلاف العيني، وسقوط الوجوب يكون إما بالإطاعة وإما بالعصيان وإما بارتفاع الموضوع، ومحلّ الكلام من قبيل الثالث، نظير ما إذا صلّى أحد المكلّفين على الميت، فإنه لا يبقى موضوع للوجوب، إذ لا يجب إلاّ صلاة واحدة عليه، ولما كان الوجوب والاستحباب ضدّين ، فكيف يكون الشي الواحد واجباً ومستحباً معاً ؟ المستحب ما يجوز تركه فإذا كان مستحباً عينياً كيف يكون واجباً لا يجوز تركه، وأنه إذا ترك فالكلّ معاقبون على ذلك ؟
وقيل: الواجب الكفائي ما يجب فعله على المجموع.
ولم يتضح لنا وجه الفرق بين هذا التعريف وما ذكرناه…
فالحاصل: دعوى عدم التنافي بينهما غير واضحة عندنا.
فالقائلون بعدم المنافاة في سعة من توجيه عبارة المحقق، وأمّا الذين لا يوافقون على ذلك، فقد حاولوا توجيهها، ففي (المسالك): وظيفة القضاء من فروض الكفاية لتوقّف النظام عليه، أو لما يترتب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعظم فائدته تولاّه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن قبله من الأنبياء بأنفسهم لاُمتّهم ومن بعدهم من خلفائهم، وحينئذ، فحكم المصنف باستحبابه لمن يثق بنفسه محمول على طلبه من الإمام ممن لم يأمره به إذا كان من أهله، أو على فعله لأهله في حال الغيبة حيث لا يتوقف على إذن خاص. وقوله « وربما وجب » يتحقق الوجوب فيما ذكرناه من طلب الإمام له ، وفيما إذا انحصر الأمر فيه ولم يعلم الإمام به أو لم ينحصر بالنظر إلى الوجوب الكفائي، أو على تقدير توقف حصول الحق عليه أو الأمر بالمعروف في حال الغيبة. وقوله « ووجوبه على الكفاية » يعني به على تقدير وجوبه عنده، وإنما يكون على الكفاية إذا أمكن قيام غيره مقامه ولم يعيّنه عليه الإمام، وإلاّ كان وجوبه عينياً كغيره من فروض الكفايات ، إذا لم يحصل منها إلاّ فرد واحد(6)…
أقول: إن كان مراد المحقق قدّس سرّه تولّي القضاء والتصدّي لهذا المنصب، فإنه يختص بزمان حضور الإمام، لأنه الزمن الذي لا حكم وجوبي عليه ـ إلاّ في حال تعيين الإمام ونصبه ـ فيستحب له الحضور عند الإمام لأخذه منه، ولا مورد للإستحباب غيره ، فإن نصبه كان واجباً عينياً وإن نصب جماعة كان كفائياً، ولا يجتمع الإستحباب مع الوجوب الكفائي.
وإن كان المراد أن يجعل نفسه في معرض ترافع الناس إليه ـ وإن كان هناك قاض ـ فإن كان التصدي واجباً عليه ، كان تعريض نفسه لذلك واجباً كذلك من باب المقدمة، وإن كان واجباً عليه وعلى غيره كفاية، كان ذلك واجباً عليه من باب المقدمة كذلك، إذ لا يكون ذو المقدمة واجباً والمقدمة مستحبة.
وإن كان المراد من التولّي نفس القضاء وفصل الخصومة، فإن كان في زمن الحضور وقد نصب لذلك وأمر به، كان واجباً عينياً عليه، ومع الإذن العام يكون واجباً كفائياً ، فلا يتصور الاستحباب.
وإن كان القضاء وجوبه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان واجباً عليه من باب مقدّمة الواجب.
فالحاصل: إن من كان حكمه في زمن الغيبة نافذاً ، كان وجوب القضاء عليه كفائيّاً، سواء وجد غيره أيضاً لوضوح الأمر حينئذ، أو لم يوجد غيره، لأن الواجب الكفائي لا ينقلب معه إلى العيني، بل يتعيّن عليه القضاء بحكم العقل، وهذا هو مراد من عبّر بالواجب العيني حينئذ.
فظهر أنه لا يتصور الإستحباب.
وخالف في استحبابه أو وجوبه بعض العامّة، فحكم بكراهته لعظم خطره ونظراً إلى الأحاديث المحذّرة… واُجيب عنه في (المسالك) وغيره بأن المقصود من التحذير بيان عظم خطره(7) ولزوم شدة الإحتياط فيه.
ثم إن الأحكام التي ذكرها المحقق قدّس سرّه في هذه المسألة بالنسبة إلى زمن الحضور(8) لا ثمرة للبحث عنها بالنسبة إلينا، نعم يحتمل وجود الثمرة في قوله: « ولو وجد من هو بالشرائط فامتنع لم يجبر مع وجود مثله، ولو ألزمه الإمام: قال في الخلاف : لم يكن له الإمتناع… »(9).
أقول: وجه ما ذهب إليه المحقق قدّس سرّه: أن الإمام لا يوجب ما وجب كفاية بالوجوب العيني، فلو خاطب الإمام أحد المكلفين في واجب كفائي ، لم يخرج بذلك عن كونه كفائياً، ولا يلزم بامتثاله مع وجود غيره.
ووجه ما ذكره الشيخ قدّس سرّه في (الخلاف) هو: أن المصالح قد توجب اختلاف الحكم وتغيّره ـ لا أنه يجتمع حينئذ حكمان ـ فيكون كحال الإضطرار وطروّ العنوان الثانوي.
فظهر أنه لا اختلاف بين المحقق والشيخ في المسألة، لاختلاف الموضوع، وأن الإمام عليه السلام لا يجعل الواجب الكفائي عينيّاً بالعنوان الأوّلي.
قال المحقق: « ولو لم يعلم به الإمام وجب أن يعرّف نفسه… »(10).
أقول: علم الإمام عليه السلام بالأمور يكون في ظرف إرادته وإشاءته لأن يعلم به(11)، فعلم الإمام كبصر البصير، ودليل الوجوب في حال عدم وجود غيره أن القضاء من باب الأمر بالمعروف، فيكون ـ بناء عليه ـ واجباً من باب المقدمة… وهذه العبارة كالتمهيد لقوله:
(1) شرائع الإسلام 4 : 68.
(2) الدروس الشرعية 2 : 66.
(3) الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية 3 : 62.
(4) كشف اللثام في شرح قواعد الأحكام 10 : 10.
(5) رياض المسائل ( 15 : 26 ) وفي القواعد ( 3 : 420 ) : ويستحب التولية لمن يثق من نفسه بالقيام بشرائطها على الأعيان وتجب على الكفاية .
وفي الكفاية ( 2 : 665 ) : تولّي القضاء مستحب لمن يثق من نفسه القيام بالشرائط المعتبرة فيه ، وهو من الواجبات الكفائية ، وقد يتعين وجوبه عند الأمر من الإمام عليه السلام أو الإنحصار فيه .
وفي مفتاح الكرامة بشرح عبارة القواعد المتقدمة ( 10 : 5 ) « ويستحب التولية لمن يثق من نفسه » أي بأن لا يخرج عن الشرع . وقد أجمعت الامة كما في المبسوط ـ ما عدا أبا قلابة لأنه كان يحتمل أنه غير فقيه ـ على أنه طاعة وأمر مرغوب عقلاً ونقلاً ، والإستحباب العيني لا ينافي الوجوب الكفائي .
فالدليل على الإستحباب ـ بعد العمومات وبعض الأخبار ـ هو الإجماع المذكور ، وفي الرياض : لا خلاف في شيء من ذلك عندنا خلافاً لبعض العامّة .
وأما دليل الوجوب على الكفاية ، ففي مفتاح الكرامة : يدلّ عليه ـ بعد مرسل ابن أبي عمير والخبر النبوي ـ عموم ما أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والإجماع كما في المجمع ، والإعتبار من تحصيل النظام ودفع المفاسد .
وفي الرياض : هو من فروض الكفاية بلا خلاف فيه بينهم أجده .
ثم إنهم تصدّوا لرفع التنافي الظاهر بين الحكمين ، فذكروا وجوهاً لأجل تعدد موضوع الاستحباب والوجوب ، والسيد الاستاذ مدّ ظله لم يرتض بشيء منها .
(6) مسالك الأفهام 13 : 336 ـ 337.
(7) مسالك الأفهام 13 : 338.
(8) وهو قوله: وإذا علم الإمام أن بلداً خال من قاض لزمه أن يبعث له، ويأثم أهل البلد بالاتفاق على منعه ، ويحل قتالهم طلباً للإجابة.
(9) كتاب الخلاف 6 : 209 ، المسألة 2.
(10) شرائع الإسلام 4 : 69.
(11) تدل على ذلك النصوص الواردة عنهم عليهم السلام والمخرجة في أصول الكافي في الباب الذي عقده الشيخ الكليني قدّس سرّه بنفس هذا العنوان.